ليست عاطفة الابن لوالدته التركية هي ما دفع اللبناني العربي صاحب هذا المقال إلى كتاب "تركيا الصيغة والدور" لمؤلفه الباحث الجاد محمد نور الدين، والصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر، كذلك ولا الرواج الذي لقيه الكتاب في آخر معرض للكتاب في قاعة بيال في وسط المدينةبيروت، بل هو الاقتناع عند كاتب هذه السطور بأهمية التجربة التركية بقيادة الإسلاميين رجب طيب اردوغان وعبدالله غول، وبكون دراستها تصلح لان تقدم نموذجاً لدراسة مجتمعاتنا العربية من دون تسطيح، فلا عيش في الماضي والحاضر على حساب المستقبل، ولا انشداد للاحلام المستقبلية من دون الالتفات إلى مضمون البنى والمؤسسات وجدول الخطوات. احببت هذا الكتاب بين كثيرين احبوه، لا لجنوح عندي إلى الإسلاموية، ولا لضغن مسبق ازاء الكمالية التركية منتزعة الاسكندرون وانطاكية من سوريا، بل متابعة مني لتلك الظاهرة الابرز في السياسة التركية الحالية، ظاهرة التوفيق الناجح المتكامل بين تركيا التاريخية ما قبل مجيء العسكر إلى السلطة وظاهرة العلمانية المعقلنة والمشتركة التي جاء بها مصطفى كمال. كانت نقطة الانطلاق الناجحة في وثبة اردوغان إلى السلطة، كما يرى صاحب الكتاب "تركيا الصيغة والدور" أنه خطى الخطوة الاولى تجاه العسكريين العلمانيين باطلاقه في اول المعركة الانتخابية، خطاباً تصالحياً وايجابياً معهم لو واجههوه لوقعوا في خطأ جسيم. ذلك أنه اقنع الرأي العام أن امام تركيا فرصة تاريخية للمصالحة بين إسلامييها وعلمانييها، وبين المواطن والدولة، أنه بتفويت الفرصة سوف تكون اضراراً بالاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي، خاصة وان انتصار الاعتدال الإسلامي في تركيا سيكون بشرى لواشنطن التي دفعت ثمناً غالياً من صورتها من جراء ما تسميه الحرب على الارهاب. وكان لواشنطن مصلحة في ارسال رسالة للرأي العام الإسلامي في كل مكان بانها ليست ضد نموذج إسلامي يجمع الإسلام والديموقراطية، خاصةً وان الولاياتالمتحدة تخوض معارك في العراق وغير العراق تحت يافطة الحرب على الارهاب. ليست تركيا كما يرسمها قلم محمد نور الدين بامانة، زبوناً يختار ثوبه من محل جاهز، ولا هي صاحبة زر تسلمه إلى خياط ليصنع ثوباً يلائمها، بل هي قامة وقوام ناميان، وحياة وطنية وجسد ينبغي أن يكون مؤهلاً لصراع اليوم والغد. ان مأزق تركيا مع الغرب هو أنه مطلوب منها في استراتيجيته أن تختار بين أن تكون اول الشرق أو آخر الغرب، والموقعان مجربان، فالاولوية على الشرق جربها سلاطين بني عثمان، فلم ترتد عليهم بجدوى، والغربية لم تنفع اول رئيس جمهورية تركي بعد مصطفى كمال، إلا بموقع متواضع في حلف مع ملك الأفغان وولي عهد العراق. تركيا، كما ظهرت في كتاب محمد نور الدين، استدعت وتستدعي كثيراً من التعليقات، فلتركيا مقام كبير بين الدول الإسلامية، ناتج عن أن دولة الخلافة العثمانية كانت من الوجهة التاريخية آخر دولة إسلامية عظمى في التاريخ، وجمهورية مصطفى كمال بوجوده ومن بعده، اعطت تركيا لمعاناً خاصاً ما زال مستمراً حتى الآن. وكأن تركيا العميقة حقيقة موجودة لا تتبلور بشكل كامل إلا في الحالتين معاً. والواقع أن جديد تركيا النهضوي كان قد بدأ قبل سقوط الدولة العثمانية بمدة طويلة، اذ هي زودت العالم الإسلامي العربي وغير العربي بعدد كبير من الافذاذ في كل الحقول، ساهموا في الحياة العربية نفسها مساهمة ثقافية وسياسية من الطراز الرفيع، فكثير من الذين تخرجوا في تركيا الخلافة ساهموا في بناء الجمهوريات في العالم العربي وغير العربي. واغلب الجامعات والمدارس الجيدة والادارات في كل العالم الإسلامي والعربي بصورة خاصة قد أنشأها متعلمون ومهنيون وموظفون عرب وغير عرب درسوا في تركيا، ولعبوا بعد عودتهم دوراً ايجابياً لم يستطع غيرهم أن يسبقهم اليه. وكما كان هؤلاء في تركيا هم بناة الجمهورية، كذلك استمرت قلة منهم بناة فيها وفي غيرها من الكيانات العربية وغير العربية في العالم الإسلامي كله. وقد كان لكاتب هذا المقال حظ على سبيل المثال في أن يذهب مرة إلى لاهور في الهند، ففوجئ بالاثر التركي العثماني في العمران والقوانين والاحلام النهضوية في الهند. واذا كان لهذا الكلام في آذان بعض من العرب وغير العرب مدلول يشبه أن يكون عولمة من نوع خاص، فهو عولمة حميدة قاعدتها الجغرافيا والتاريخ والانتماء للعصر، تمثل في المنطقة اشياء اعمق واقوى مما تظن اسرائيل وحلفاؤها. وأهمية كتاب "تركيا الصيغة والدور"، هي في كونه كتاباً يغوص في حاجات الاتراك، وبالتالي غيرهم من مشاركيهم في تجربتهم العثمانية، والمماثلين لابنائهم في البحث عن الحلول لحاضرهم. وليس كتاب "تركيا الصيغة والدور" كتاباً في الماضي، ولا هو محاولة تجميد للتجربة التركية لحصرها بالعامل الإسلامي وحده، بل أن قراءة متأنية للكتاب تكشف نظرة واسعة منه في تحليل الجوهر في تطور الحياة السياسية التركية، يتلخص بنوع من الجدلية (الديالكتيكية) بين الإسلام التركي التراثي والمتطور من جهة، والعسكرية الاتاتوركية من جهة ثانية، وصولاً إلى صيغة جمعية جدية هي تركيا الحالية اليوم، وبحسب الترجمة اللغوية للمرحوم منير بعلبكي لثالوث ديكارت الشهير (الطريحة والنقيصة فالجميعة)، تقوم صيغة الحكم التركي الحالية على شراكة حزب العدالة والتنمية والعسكرية التركية التقليدية في قيادة تركيا اليوم، لا تكفيرية (تلك التهمة الحادة الموجهة من النظام الدولي كله للمنهج الإسلامي في السياسة والحكم)، التي يعتبر الاتراك الحاكمون اليوم انفسهم براء منها. فقد توصلوا كما يعتقدون، إلى اقامة حكم لا يكفر فيه الواحد الآخر، فلا المدنيون الإسلاميون يكفرون العسكر بالخروج عن الإسلام، ولا العسكر يكفرون الساسة بوصفهم بالرجعية وخيانة الارث الكمالي. حكم لا يكفر فيه أحد أحداً، هذا هو جوهر الانجاز التركي الحالي. هل يكفي ذلك لاستحقاق تركيا رضى القوى الغربية حاكمة العالم اليوم؟. بالتأكيد أن ما فعله الاتراك الحاكمون اليوم ويفعلونه، اقام بينهم وبين سلاطين الغرب مجرد حوار لم يتمكن من اقامته حاكم عربي أو اي آخر غير تركي. فحتى الحكام العرب الذين والوا الغرب بقوة كنوري السعيد في العراق وبعض حكام الخليج مثلاً، لم ينجوا من لوم الغرب الذي أيدوه، واتهامه لهم بالتكفيرية العسكرية والمدنية، ولكن تركيا اليوم تبدو ناجحة في تخطي تهمة التكفيرية التي تعود الحكام الغربيون على الاحتفاظ بها لوصم الحكام العرب وغيرهم ايضاً من المسلمين بها. فهل نجح اتراك اليوم بصيغة الحكم التي يصفها كتاب نور الدين؟. وجاء في برنامج حزب العدالة والتنمية أن العلمانية كما يفهمها ويمارسها، هي ضمانة الديموقراطية لا اساسها، وان العلمانية هي المبدأ الاساسي للسلم الاجتماعي، وان العلمانية مفهوم يقيّد (او يضع حدوداً) للدولة لا للافراد. وهي حياد الدولة تجاه المعتقدات الدينية. ويرى الحزب أن الحريات الفردية هي اساس التحرر الاجتماعي. ويرى كذلك أن الدين ليس عامل تقسيم للمجتمع، بل عامل توحيد. قبل أن يجذبني كتاب "تركيا الصيغة والدور"، كان قد فاجأني النجاح نفسه الذي حققته الدولة التركية بالتغلب على ازمة كان الكثيرون يتصورون انها اصعب من أن تحل نظراً لعمق التناقض بين مفهوم العلمنة المعروف في التراث التركي منذ مصطفى كمال، ومفهوم الإسلام السياسي الذي عاشته تركيا الدولة والشعب، قبل مصطفى كمال وبعده. فالمنجمون كان يمكن أن يتوقعوا امكان التوافق بين علمانية العسكريين الاتراك وإسلامية الجماهريين. وبالفعل، هذا ما حصل في وقت كان يظن أنه الابعد عن أن يتم، اذ بدا كما لو أنه ثورة مفاجئة على التكفير من اي جهة ضد اي جهة. فالتكفير بذاته ممارسة غير مسموحة إسلامياً، إلا بظروف بالغة الخصوصية، والإسلام تجنبها في نظر جمهور المسلمين حتى ولو جازت. والأصل هو الحديث الشريف القاطع بأن من كفر مسلماً فقد كفر. وهكذا كانت صيغة الوفاق الناجحة والمعتمدة الآن: لا العسكر يكفرون الساسة ولا الساسة يكفرون العسكر. كان من اوائل الزيارات التي قام بها البابا الحالي خارج ايطاليا، على اثر تسلمه كرسي القيادة للعالم الكاثوليكي، زيارته لتركيا، بادئاً بالجامع الازرق الجديد في اسطنبول، وقد حرص على أن تفهم زيارته على انها بادرة تقدير للإسلام كدين. فقد سأل لماذا يسجد المصلون متوجهين جنوباً، فقيل له أن الصلاة تكون باتجاه مكة، لكونها مدينة رسول المسلمين محمد بن عبدالله. فاذا هو يطلب لنفسه سجادة صلى عليها متوجهاً إلى مكة في الوقت نفسه مع ملايين المسلمين في العالم. حملت تلك البادرة إلى جانب معنى التقدير للإسلام وشعائره، ومكان هبوط الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، معنى اضافياً هو تعزيز مكان اسطنبول في تاريخ الإسلام والمسيحية معاً. هذا إلى أن البابا الماني، وفي المانيا يعيش مسلمون من كل الاوطان، وكثرتهم الكاثرة من المسلمين الاتراك. يمتاز الإسلام السياسي التركي اليوم، بقيادة زعيمه عبدالله غول ورجب طيب اردوغان، بعقل استراتيجي يعرف من اين يبدأ والى اين يريد أن يصل، متى تكون الخطوة إلى الامام مخاطرة، ومتى يكون الاحجام عنها جموداً ورجعية، لا يغامر ولكن في الوقت نفسه لا يجمد. يحسن صيد الاصوات في الصناديق الانتخابية، ولكنه يعرف جيداً كيف يصغي للاكثرية الصامتة: يلتفت إلى ماضي تركيا فيحسن قراءة وتقدير تجربة مصطفى كمال، ابي الاتراك، ولكن لا ينسى ايضاً أنه قبل جمهورية اتاتورك، كانت سلطنة بني عثمان قد احتلت مكاناً في التاريخ لم تبلغه إلا امبراطوريات قليلة. لا يخطر في بال الإسلاميين الحاكمين اليوم في تركيا، التقليل من شأن باني الجمهورية التركية مصطفى كمال أو انكار تراثه، ولكن تركيا الحية، تركيا الحاضر والمستقبل ممن تتألف ومما تتألف، ما ضعفها وما قوتها، ما تعاني وماذا تريد، اي عقل جماعي يسيرها أو بالأحرى توصل لتسييرها، تركيا كيف يصح أن يقدمها قاموس صادر الآن، أو على اهبة الصدور، تركيا كما هي، مصورة تصويراً فوتوغرافياً، موضوعة تحت الانوار الكاشفة، متصادقة فيها التيارات. ذلك ما ازداد التفاؤل به مع نوعية العقل السياسي الحاكم في تركيا الآن، ونوعية الدراسات التي يصدرها الآن المفكرون الاتراك وغير الاتراك في نهج لا تأسره الشعارات ولا يقعد به الجمود. كانت أغلبية الكتب الصادرة عن تركيا في العهد الكمالي متسمة باحدى سمتين: اما إسلامية متطرفة غير مستعدة لفهم التجربة الكمالية العلمانية على حقيقتها، أو علمانية متطرفة ترفض التعامل مع الإسلام إلا على أنه مرادف للتخلف والعجز. الآن اصبح واضحاً أنه لدرس التجارب العلمانية نفسها، سواء في تركيا أو غيرها، لا بد من دراسة المجتمعات السابقة لها، لا كمجتمعات موصوفة بالتخلف، وهذا كل شيء يجب أن يعرف عنها، بل منظوراً اليها كتجارب تكمن فيها حياة امة يجب درسها بموضوعية، سواء كان الباحث إسلامياً أو غير إسلامي، بل أن العلماني ربما يكون أحوج من غيره لدراسة المجتمع الإسلامي والفكر الإسلامي بواقعية تمكنه أن ينجح في شرح المناخ الذي ولدت فيه العلمانية كدواء، في اي بلد كان أو ما مسوغات تعثرها إذا تعثرت. ولعل دعاة العلمانية أحوج من سواهم إلى دراسة تجارب ما قبلهم لإقناع أنفسهم والناس بمسوغات الكلام الذي يطرحون.