الجغرافيا التي صنعها عبدالعزيز - رحمه الله - بنضالاته، وعزائمه، وإيماناته ووحّدها من الماء إلى الماء، من أقصى سواحل الخليج العربي شرقاً، وحتى سواحل البحر الأحمر غرباً وجنوباً. هي الوطن الذي يشكل الانتماء، والهوية، والولاء، وهو وطن الشموس، والنضالات، والوحدة الأولى في التاريخ العربي المعاصر، وهو وطن القيم، والأخلاقيات المتفوقة، والشرف، والصدق، وإنكار الذات، ورفض الأنا، والإيثار على النفس ولو كان بالإنسان خصاصة. هذا هو الوطن. وأرجو أن أكون موفقاً في هذا التصنيف، وصادقاً فيه، وأرجو - أيضاً - أن لا نضطر يوماً لنقول هكذا كان الوطن، وهكذا كان الإنسان فيه. وإن كان هذا الهاجس مخيفاً، ومرعباً، ومؤشراته تبدو بذورها تأخذ تفاعلاتها مع التربة، وبدأت تتكرس - للأسف والأسى - كثقافة، وهذا يقود إلى كوارث يكون من الصعب إن لم نقل المستحيل علاجها، وتجفيف منابع ثقافتها، وإعادة المجتمع إلى ذلك النقاء، وذاك الصدق، وتلك القيم. لقد تحول الوطن، أو يكاد أن يتحول عند البعض إلى ما يشبه موائدنا الباذخة والمترفة، والتي تشي بالسفه. بعضنا يكون من أوائل الجالسين على المائدة فيختار أطايب الطعام، وألذها، والبعض الآخر يأتي بعد ذلك فيجد أطباقاً لم تمس، ولم تصل إليها الأيدي لكثرتها، وتوفرها، وبعض يأتي فيجد الفتات، أو فتات الفتات، لكن يجد ما يوفر الشبع عنده، ولو كان من النشويات!! أحسب أنها صورة واضحة تتكرس كثقافة عند البعض في الإدارات، والمؤسسات، والأجهزة. تحول الوطن إلى قطعة جاتوه كبيرة، نتسابق عليها لنحصل على نصيبنا حسب "شطارتنا" وحسب "مواقعنا" وحسب مفهومنا للمواطنة. لا أريد أن أسترسل، وأذهب بعيداً. لنأخذ العنوان الرئيسي لجريدة "الرياض" يوم أمس. "هيئة الرقابة: 6821قضية فساد مالي في العام الماضي"!؟ ونسأل: - ما نوع الفساد..؟؟ يجيب الخبر، الرشوة، التزوير، الاختلاس، استغلال النفوذ، تزييف العملة..!؟ هذا يحدث في الأجهزة المؤتمنة على مصالح الناس. وعلى المال العام. معقول. هل تحولنا في تعاملاتنا مع الوطن إلى هذا المفهوم الرخيص الذي لا يضع مصلحة الوطن، ومستقبلاته، واستشراف مواقعه الحضارية، والفكرية، والإنتاجية في موقع مقدس يحرص على أن يكون مفهوم الوطن أولاً، وأولاً، وأولاً. هو الهمّ، والهاجس. الخبر لا يعطي الاطمئنان، ولا يبعث في النفس إلا الخوف، والإشفاق من ممارسة البعض.. ومحاصرة هذه الثقافة سريعاً وعاجلاً بالشفافية، والمحاسبة، والمساءلة، أمر يجب أن يكون.