تتحرك العنصرية الثقافية في خطوط متقاطعة، ولو استعرضنا الصورة العالمية لنظرات الشعوب بعضها لبعض لهالتنا العبثية المطلقة في تصورات الذات للآخر، فالأوربيون يرون أن العرق الآري أرقى من غيره، ويرجحون قدراته العقلية على العرق السامي العاطفي، وفي السامية يرى اليهود أنفسهم أرقى من بني عمومتهم بل أرقى من الشعوب الأخرى كافة، ولدينا نحن تفضيلات تبدأ من تمييز ثقافي يستعلي على البداوة ويقسم الشعب العربي تقسيمات طبقية تأخذ بتفضيل الذات على الذات الأخرى وزعم مركزية حضارية لها علو عقلي وطبقي، ولا يقف الوضع عند هذا الحد فأنت إذا ما رأيت التقسيم العربي بين بلدان العرب وشعوبهم فإنك سترى داخل كل شعب تقسيمات ذاتية بين منطقة وأخرى، وتأتي المدينة على رأس التقسيم إذ كلما صارت المدينة وأهلها أكثر تقدماً على المستوى المادي والمعاشي رأى أهلها أنهم تبعاً لذلك أرقى حضارياً وعقلياً وسلوكياً. وفي مقابل ذلك كله فإن الشعوب ذاتها ترد المكيال باستهجان من استهجنهم، فأوروبا وشعوبها وثقافاتها هي في موقع تقبيح عريض تاريخياً ومرحلياً حيث هناك إشارات لربط اللون الأشقر بلون الخنزير وبأخلاق الخنازير وهناك تفضيلات للون الأسود تجعل العرق الأفريقي يفوق غيره وهي منتشرة في كثير من أدبيات أفريقيا وعند بعض المهاجرين في أمريكا وأوروبا. ولسوف تدخل الألوان بدرجاتها في هذه التقسيمات فالأبيض درجات والأسمر درجات والأسود درجات، حيث سترى اللون الأشقر والعيون الزرق هي الأرقى في زعم الاربين، وسترى دعاوى حول لون بشرة مريم عليها السلام وكذا لون السيد المسيح، بين لون أشقر أوروبي تعكسه الصور والرسومات ولون قمحي أو بني وحتى أسود في بيئات أخرى، وكلها تزعم اللون هو النسب بينهم وبين المسيح وأمه العذراء، حسب تفضيلات ينتسبون اليها وينسبونها لأنفسهم. ولذا فإنك سترى تفضيلات طبقية أساسها لون البشرة، وستجد أن اسم سيدنا آدم سيكون مصدره لون أبي البشرية حيث سيتشكل اللون حسب لغة المتحدث ولون هذه اللغة، ويتحول اللون قيمة حضارية تفضيلية ومادة عنصرية جذرية. (ولنادر كاظم دراسة عميقة حول نسقية اللون تضمنها كتابه، تمثيلات الآخر، وهي عن اللون الأسود في الثقافة العربية). ويشمل التقسيم الطبقي الأفكار والآراء كذلك، حيث ستصبح الأفكار مادة للتمييز العنصري، وتصبح قيمة ثقافية نسقية وسيكون المتشابهون في تصوراتهم الدينية أو الثقافية هم الأفضل وغيرهم سيخرج شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى النفي الكلي والطرد. كل ذلك في لعبة متقاطعة لو أنك نظرت فيها كلها مجتمعة وأقمت الحجة حسب مقتضاها لدى كل طرف لخلصت إلى واحدة من نتيجتين، إما بأن يصبح كل جنس فاضلاً ومتفوقاً على كل من سواه، فاضلاً في لونه وفي معتقده وفي مستوى عيشه، سواء بسواء وشاملاً بلا استثناء بما إن كل جنس يقول عن افضلية جنسه، ولا أحد يقول بدونية ذاته ولا حتى بحياديتها، وإذا صدقت ما يقوله كل طرف عن نفسه فإنك لن تجد جنساً ساقطاً في هذه الحالة حسب دعوى الذات عن ذاتها، وهنا ستسأل عن الدعوى وكيف ستكون هذه الدعوى كلية شائعة بلا قياس..؟؟. أو انك ستقول إن الجميع ساقطون في كل أمر من أمورهم بدءاً من لونهم وانتهاء بأفكارهم وذلك إذا صدقت ما يقوله هذا عن ذاك. وقد تلجأ إلى حل ثالث تكتشف معه - ويا للهول - ان البشر سواسية وان لا جنس أفضل من جنس ولا عرق أرقى من عرق، وذلك إذا ما نظرت إلى المعادلة من وجهيها معاً، وقارنت بين دعاوى التميز العرقي ومعها دعاوى دونية الآخرين، وبين نقض كل دعوى لأختها مقارنة بقول الطرف الآخر عن نفسه وعن غيره فيما بين تفوق للذات ودونية للآخر، وبما إنه لا يمكن تصديق طرف من الدعوى وتكذيب الطرف الآخر وهذا بالضبط ما ينهي المعادلة بنتيجة صفرية تسلب حق الإدعاء وتنسخه. ولعل الأكثر فداحة أنك ستجد هذه التقاطعات عند الأفراد بذواتهم، ولقد غذاها الشعر تغذية مفرطة حيث تأسس فن المديح ليكون أكبر أبواب الشعر العربي وهو فن يقوم على تمييز الفرد الممدوح وجعله خير من ركب المطايا وهو اندى العالمين بطون راح، كما قال جرير في عبدالملك، والاثنان يعلمان كذب هذا القول ولكنهما يتواطآن على قبوله ومن ثم تأسيس النسق التمييزي الفردي الذي هو فرع عن تصور كلي ابتداء بتفضيل الذات الجمعية في شعر الفخر وامتد ليميز الذات المفردة بعد ان تميزت الذات الكلية، وهو تمييز يقوم على نفي الآخر المفرد مثلما ينفي الآخر الجمعي. هذه ثقافة ليست قديمة ورجعية ولكنها ثقافة كونية وفي الخطاب السياسي اليوم ما يعيد صياغة الخطاب الشعري عندنا والملحمي عند اليونانيين، وحينما استقال توني بلير صيف 2007خطب في شعبه مودعاً وكانت خطبته قصيدة انجليزية حديثة لا تختلف عن قصيدة عمرو بن كلثوم، وكأنما هي ترجمة لها، حيث اشار بلير إلى أنه يترك بريطانيا وهي أعظم أمة على مر التاريخ وأن لندن اعظم مدينة في العالم اقتصادياً وسياسياً، ولقد كانت صيغ فعل التفضيل هي الاكثر تواتراً في كلمته اكثر من اي صيغة لغوية اخرى تماماً مثل جرير امام عبدالملك. على انك ستجد في بريطانيا نفسها تفضيلات عنصرية ودينية وثقافية فيما بين التكوين الكلي للشعب من اسكتلنديين وإيرلنديين وويلز، فما بالك مع المهاجرين واصحاب البشرة المختلفة والدين المختلف، لدرجة حدوث إشكال سياسي إذا ما كان رئيس الوزراء كاثوليكياً، وهو ما يسبب مشكلة مع كون ملكة البلاد هي رئيسة الكنيسة المنشقة على سلطة روما، وهنا تكون المرجعية الرمزية لرئيس الوزراء متناقضة مع الوضع الرسمي للبلد وملكته الرمز. وهو إشكال يدخل في معجم التمييز الثقافي بين المختلفين. تمر الثقافات كلها في كافة ظروفها ومراحلها بتقلبات عنصرية حتى لتصاب بالعمى الثقافي حيث تتناقض مع كل ماهو معلن من مبادئ ومثل، بدءاً من جمهورية افلاطون وهو أول تسجيل فلسفي للطبقية والعنصرية وتهميش الآخر إلى نظريات صراع الحضارات ودونية الشعوب والأعراق، ولن أنسى جلسة صارت لنا صيف 1979في جامعة كيمبردج مع باحثين المان راح احدهم يتحدث عن قصور العقل العربي وضرب مثلاً بمسعى يقول إن ألمانيا سعت لتدريب كوادر اردنية على التكنولوجيا الحديثة وراح يحدثنا عن فشل المهمة لعجز الاردنيين بوصفهم عرباً عن تمثل الدرس الإلكتروني وهو زعم فتح ابواباً عريضة لنقاش امتد بيننا مدة أيام المؤتمر الثلاثة دون ان نتمكن من إقناعه بعنصرية تفكيره وانغلاق تصوراته. وإذا قلنا هذا كله عن تمييز طبقي أوروبي ضد بعضهم بعضاً ثم ضد ثقافتنا فإن ثقافتنا ذاتها تحمل تمييزاتها ضد الآخرين ولنتذكر تعبيرات من مثل بربر وعجم على غير العرب وعبارات من مثل بدوي/صحراوي/صعيدي/حمصي/أو تعبيرات من مثل خليجي إذا قالها مصري، أو كلمة مصري إذا قالها خليجي، وهكذا إلى ما لا نهاية. تتداخل الأنظمة الثقافية والذهنية حتى ليكون المرء وتكون الثقافة معه في موضع الضحية والجلاد في آن واحد، وفي موضع المفضول والفاضل معاً وفي آن، مثلما هو في موضع العاقل المثالي في معلن خطابه والعنصري الطبقي في مسلكه وفي مكنون خطابه، وهو مكنون يتسرب كلما احتك أمر بأمر لتقدح نار الضغينة والعنصرية. وما موضوع القبائلية من جهة والشعوبية من جهة أخرى أو الطبقية الثقافية والتمييزات العنصرية إلا صور تعبيرية عن كينونة بشرية ما تغيب إلا لتحضر ولا تحضر إلا لتجلب معها تاريخاً من الطبع البشري المتكرر وإن بصيغ شتى. والثقافة هنا تقع في إشكال معرفي يأتي من التالي: 1- من اختلف عنك ولا يملك صفات تماثل صفاتك وخصائصك فهو - إذن - أقل منك: الغني مع الفقير، المثقف مع العامي، الأبيض مع الأسود، وخذ القبائل والشعوب والعائلات الكبيرة والطبقات التي ترى نفسها عليا، وهلم جرا. بما أنه وهم ثقافي يتلبس لبوس اليقين المطلق. 2- يتراءى للمرء أن منظومته القيمية هي ذات ارتباط عضوي بقيمته الإنسانية، وهذه المنظومة القيمية الافتراضية هي العامل الأول في مقياس الرفع والخفض، وكل قيمة أخرى تصبح حينئذ علة للدونية، ولقد رأينا أمثلة تجعل من استخدام الجمل كوسيلة مواصلات علامة على التوحش وهو ما قال به ابن خلدون وقاله وريثه الحديث نزار قباني، ولقد ذكرنا المثالين هذين في مقالات سابقة، ومثلهما كان لأحد مشائخنا حديث مسجل عن رحلة له إلى أمريكا وصف الأمريكيين بعدم الذوق لأنهم يأكلون اللحم مع فطور الصباح، وهذا وذاك كلاهما ينطلق من مرجعية ترى المختلف عن الذات ناقصاً ودونياً. حينما لا ترى الذات ذاتها فإنها لا ترى عيوبها وحينما تنكر الذات على غيرها حقه في الاختلاف في تبادل مشترك بين الأطراف فهذا هو العمى الثقافي.