اعتبر الناقد محمد الحرز أن من أهم وظائف الرواية المحلية التي ينبغي التركيز عليها كنقد ثقافي هو كتابة التاريخ بوصفه متخيلا.مؤكدا على أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها شكلت انقساما حادا في الوعي الإبداعي،وخلقت ضرورة متباينة لاستحضار الآخر في الرواية المحلية.كما أكد على أن مجتمع بلا حوار ينتج أدبا مشابهاً له وهذا ما جعل الرواية النفسية تغيب عن المشهد الروائي المحلي. هذه الآراء النقدية التأملية للناقد محمد الحرز نرصدها في حواره لثقافة "الرياض": @ الآن نقد الرواية المحلية أصبح يتجه إلى النقد الثقافي.و يغيب الجانب الفني.هذا التوجه يجعل الرواية تأخذ شكل الخطاب الاجتماعي.كيف هي رؤيتك لهذه المسألة ؟ - سؤالك يقرر وجهة نظر أشك في بروزها، أو تجسدها في مشهدنا الثقافي.الرواية المحلية لا زالت بمنأى عما تسميه النقد الثقافي، وعلى افتراض وجوده لا يفضي ذلك بالضرورة إلى أن تكون الرواية خطابا اجتماعيا هذا إذا كان هناك مفهوم واحد للخطاب الاجتماعي حيث دلالته ومعناه موحدان في أذهان متلقيهما الجوانب الفنية في نقد الرواية لا تتعارض كما يوحي به سؤالك على الإطلاق مع توجهات النقد الثقافي. دائما ثمة صلة بينهما بسبب أولا طبيعة النقد الثقافي الذي يذهب في تعليل الظواهر التي يدرسها سواء كانت أدبية أو ثقافية أو تاريخية او سياسية إلى رؤية شاملة ترى إلى التحولات المفصلية التي يمر بها أي مجتمع نقطة انطلاق لرصد تاريخه وتحليل تجليات هذا التاريخ وصوره من خلال الأدب أو السياسة أو الفكرية. وليست الملامح الفنية سوى جزء من إفرازات تلك التحولات رغم اقتناعنا التام بأن أي سمات فنية لأي جنس أدبي له تاريخه الخاص ضمن علاقة جدلية مع تاريخه العام. لذلك أقول إن روايتنا المحلية بغض النظر عن الاعتبارات الفنية المتباينة بين واحدة وأخرى،من بين أهم وظائفها التي ينبغي التركيز عليها كنقد ثقافي هو كتابة التاريخ بوصفه متخيلا. هذا التاريخ يكمن أهميته من وجهة نظر الرؤية النقدية هو إتاحة القدرة على تحليل المجتمع دون أن يكون هناك أي وسيط إيديولوجي يعيق فهمنا لأنفسنا ولقيمنا ولعلاقتنا بالآخرين. هنا ياطامي مكمن أهمية ما أحاول أن اشتغل ضمن هذا التوجه. @ الذين يكتبون الرواية بشكل احترافي ولديهم تراكم سردي عددهم محدود جدا.البقية أما طارئون على المشهد وهم أصحاب الرواية الواحدة،أو من صغار السن الذين لهم اجتهادات.في ظل هذه الأطياف التي تكتب الرواية. كيف تتم مسألة كتابة التاريخ بوصفه متخيلا ؟ - الاحترافية والتراكم مفهومان يرتبطان بالأساس بقيمة العمل والإنتاج عند الإنسان، وليست المعرفة سوى إحدى تجليات تلك القيمة. بينما ارتباطهما بالكتابة الإبداعية هو وثيق الصلة بالتقاليد الثقافية والتربوية والأخلاقية التي يتسم بها أي مجتمع، ومجتمعنا المحلي ليس استثناء.كلامي يفضي إلى نتيجة مفادها أن صفة الاحترافية والتراكمية أوسع من حصرها في الكتابة الروائية، وبالتالي هي ليست شرطا يلازمنا كباحثين إذا ما أردنا أن نحلل الظواهر الثقافية والاجتماعية من خلال تمثلاتها وصورها التي ينتجها التاريخ المتخيل للمجتمع نفسه. ربما نستفيد منهما في عملية التصنيف والتجنيس الأدبي التي تدخل في مهمات المؤرخ الأدبي. كل عمل إبداعي " رواية أو شعرأو سرد أو تشكيل ومسرح" ينبغي النظر إليه من جهتين الأولى تتعلق بسياق المؤلف الذي ينتج العمل، والأخرى تتعلق بالتقاليد الأسلوبية والفنية والدلالية التي تتحكم في العمل الإبداعي نفسه من العمق. مجال المسألة والتحليل هو في قناعتي المراوحة والمجادلة بين هاتين الجهتين. الأولى تعزز من شأن الاحترافية والتراكم في تقييم الأعمال الروائية، لكن ربطها بالأخرى هي التي تتيح لي الحرية والعمق في التحليل والرؤية وتذهب بي بعيدا في طرح الأسئلة المختلفة على الكتابة الإبداعية وخصائصها المرتبطة بمشهدنا الثقافي بشكل عام. والسؤال الاستفهامي الذي انطلق منه لتعزيز هذه الحرية هو: أليس كل رواية محكومة بسلطة النوع ؟ وعلى افتراض أنها تمردت عليه، فهل هناك شخصيات روائية محلية شكلت تجليا حقيقيا لهذا التمرد؟ أحسب أن هذه الأسئلة تتصل اتصالا مباشرا بالأفق السردي للتاريخ المتخيل.هل تحتاج يا طامي إلى أمثلة.. أنا أتركها إلى بصيرتك. @ هل تذكر لنا شخصيات روائية محلية شكلت تجليا حقيقيا لهذا التمرد؟ - لست متأكدا تماما من وجود مثل هذه الشخصيات طالما كان التمرد الذي أعنيه لا يتصل فقط بخلق شخصيات روائية مأزومة بقضايا اجتماعية وثقافية ونفسية، تهدف إلى إظهار روح الاحتجاج ضد أشكال السلط التي تطال الإنسان. فعلى سبيل المثال الاحتجاج ضد السلطة الذكورية في الرواية" النسائية" لا يسمى تمردا، بل تظل رؤية اسميها احتجاجية لا ترقى إلى موقف تمردي،يحطم مفهوم هذه السلطة من داخل الكتابة نفسها، أي يحطم سلطة التجنيس الروائي نفسه.هناك شخصية " فضة" في جهة البوصلة، وشخصية "صبا" في الفردوس الباب، وعند رجاء عالم في مسرى يا رقيب حالة من التمرد على مستوى الرؤية السردية وليس على مستوى الشخصيات. تمرد أعزوه إلى حالة الفوضى التي تخلقها رجاء ضد الوعي السردي السائد. أنها فوضى تعادل روح التمرد على مستوى الوعي الكتابي. ولعلك ياطامي تتذكر شخصية بازاروف في رواية توريجينيف " الآباءوالأبناء" كيف استطاعت هذه الشخصية رسم التحولات الدقيقة للمجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر بما يشبه الحالة التي نعيشها الآن. كذلك الأسلوب السردي البارودي الساخر الذي مهد لظهور شخصية المسخ لكافكا. ما أريد أن أقوله بالنهاية هو أن التمرد وثيق الصلة بخلخلة تصوراتنا عن الكتابة السردية التي هي بدورها ترتبط بسلطة النوع الذي تحدثنا عنه سابقا. ولكن هل ينبغي التعميم هنا؟ لا أظن نحتاج- على الأقل بالنسبة لي- إلى استقراء دقيق للمشهد الروائي المحلي، خصوصا في وجود تسارع معدلات الإنتاج للرواية في السنوات القليلة الماضية. @ النبرة الاحتجاجية في الرواية النسائية ضد السلطة الذكورية.هل تعود إلى أن تلك الروايات تدون سيرة نفسية لذوات مرهقة قبل النص.لذا يصبح النص الروائي هو أقرب للتنفيس أكثر مما يتكئ على لعبة الفن الروائي ؟ - بالتأكيد هناك نبرة احتجاجية تصاعدية كما تسميها ضد السلطة الذكورية، وهي نبرة تأخذ أشكالا متعددة من الظهور والتنوع في ساحتنا الإبداعية والفكرية تبعا لما يطرأ عليها من تحولات وتغيرات تمس بالدرجة الأولى المسائل الحقوقية المتعلقة بالمرأة. وهي في ظني نبرة لم تزل حبيسة الدوائر المغلقة على نفسها أو التصورات التي لا تنفك ترى إلى تلك المسائل الحقوقية مجرد ذات وليست موضوعا أيضا. مجرد ذات لا تعي أزمتها النفسية ولا الأخلاقية ولا التاريخية من العمق.ذات تتماهى تماما مع ذاتها بحيث يصعب عليها أن ترى مرايا الآخرين بوضوح تام. بهذا الوضع وهذه الحمولات والسمات الثقافية، النساء دخلن في سياق الإنتاج الروائي المحلي. لكن ينبغي علينا الحذر كثيرا هنا لأن قناعتنا بهذه السمات قد تفضي بنا إلى نظرة اختزالية ومسبقة ضد الرواية النسائية، وتجعلنا إلى إصدار الأحكام القيمية أقرب. فالكتابة الإبداعية مهما كانت الذوات التي خلفها كانت تتسم كما تسميها بالمرهقة أو بمجرد تنفيس، فهي لها طرق ملتوية للتعبير عن نفسها، يصعب علينا بعض الأحيان احتواء الاسباب الحقيقية التي تجعلنا نستطيع أن نكشف عن السمات الروائية وفق النظرة السابقة. نص رواية" الآخرون " دليل على ما نقول. فهو بالتأكيد لا يخضع لتلك السمات التي ذكرناها لأسباب ليس هنا مجال ذكرها، له سياقه الثقافي والاجتماعي التي تعطي خصوصية أسبابه.صحيح أن سمة التنفيس تكاد تكون لصيقة بالأصوات النسائية الروائية في مجملها، لكنها ليست السمة الوحيدة، وكذلك ليست السمة الأهم على صعيد الفهم الوجودي والحياتي للكتابة الإبداعية نفسها. @ الحديث عن الآخر في الرواية السعودية له مستويات متعددة..وسؤالي يتجه إلى مسألة محددة.هل شعرت بحالة تباين في الرؤية للآخر بين الروايات التي صدرت في التسعينات والروايات التي صدرت ما بعد الألفين ؟ - الآخر كما قلت له مستويات متعددة يستعصي احتواءه بالكامل خصوصا إذا ما حاولنا استخلاصه من تلاوين اللغة الإبداعية وثناياها ودهاليز تعابيرها الكثيرة. عموما هناك مبدئيا تباينات ووفق رؤيتي واطلاعي على بعض الاصدارات الروائية سواء في مرحلة التسعينات أو مرحلة ما بعد الألفين لم تصل تلك التباينات في تناول وفهم الآخر إلى حدود مفصلية، وإن كنت أنظر إلى مفهوم التحقيب الزمني بريبة كبيرة في فهم الظواهر المتعلقة بالإبداع نفسه ومحاولة تفسيرها من خلاله. بالتأكيد شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها انقساما حادا في الوعي الإبداعي، وجعلت منه آلة متحركة في إنتاج الأسئلة تلك المتعلقة بالآخر المختلف في الدين واللغة والقومية والاثينية. سابقا قبل تلك الأحداث كانت النظرة إلى الآخر لصيقة بالتاريخ كما هي روايات غازي القصيبي، وبعض روايات تركي الحمد وعبده خال. أي أن استحضار الآخر لم تكن دوافعه ولا مبرراته في تلك الروايات لها علاقة بقوة الضغط التي تمارسها الأحداث في الواقع الخارجي على المبدع، بل هي خاضعة بالدرجة الأولى لخيارات المبدع نفسه في كيفية استحضار هذا الآخر في بعض رواياته.بخلاف كيفية حضور الآخر في روايات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر كما أحب أن أسميها لأنها أخرجت القمقم من مخبئه، وجعلت من فهم الآخر هو الهاجس الذي يعتمل في قلب الروايات بصور متعددة. هذا الخروج من القمقم كانت أبرز دوافعه وأسبابه هي بالتأكيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. قد تكون هذه الدوافع والأسباب مدفونة تحت تراكمات من دوافع أخرى وثيقة الصلة بالأبعاد الجمالية للغة أو بموقف الروائي من وظيفة الرواية نفسها مثل رواية ميمونة لمحمود تراوري، أو جاهلية ليلى الجهني أو فخاخ الرائحة ليوسف المحيميد، إلا أن السياق العام للإنتاج الروائي المحلي يفرض علينا إيجاد تلك الصلة الوثيقة بين الأثر السياسي من جهة وتداعياته على التصورات الوظيفية للأدب في ذهن الثقافة المحلية بشكل عام. @ كيف تجد التكنيك الذي يعتمده الروائي المحلي.. هل تجد هناك حرفية عالية في هذه المسألة؟ وهل هناك روائي محدد تجده الأعلى تكنيكا من الجميع ؟ - لا أريد أن أصدر أحكاما فنية مطلقة دون استقراء تام لكل ما أنتجته ساحتنا من روايات، وهذا أمر لا أدعيه يا طامي، لكن حسب ما قرأت لم أجد تمايزا في مسألة التقنيات السردية. لقد ظل استخدام ضمير المتكلم هو المهيمن والطاغي في أغلب الروايات، ورغم وجود تقنيات زمنية عالية في التوظيف السردي إلا أنها تفتقر إلى بقية العناصر الأخرى في تفعيل مثل هذه التقنية كالبعد المكاني، وعلاقته بالشخصيات ومدى تناميها من العمق. عموما بالنهاية لم ترق رواياتنا وفق قراءاتي إلى مستوى رواية واحدة من روايات ماريو بارغاس يوسا. @ إن كان الشاعر السعودي قد تورط في لعب الدور الرسولي.فهذه مسألة قد يكون لها مبرر ما.ولكن أن يتعاطى الروائي المحلي مع السرد بذات الرؤية التي يكتب بها الشاعر في تصوري غير مبررة إطلاقا.لذا نجد الكثير من الروايات المحلية تأخذ الشكل التبشيري حيث يأتي السرد من علو.كيف ترى هذه الحالة التي اعتقد بأنها جاءت من ذات الرؤية التي يكتب بها الشعر وصرنا نلحظها في السرد؟ - صحيح أن اقتران الشعر بالنبوة كان في قلب التصورات والرؤى التي حكمت بعض التجارب الشعرية في مشهدنا المحلي، وبالتالي إلى أنفسهم بوصفهم يمتلكون"حسا تاريخيا" حسب تعبير الشاعر إليوت، يتفوقون به على أقرانهم من عامة الناس. هذا الاقتران بالنبوة له تاريخه وحضوره في الشعر العربي الحديث وثيق الصلة بالشعر الأوروبي. وصحيح أيضا أن هناك روايات محلية سقطت في فخ التماهي بين شخوص الرواية من جهة، وبين موضوعها من جهة أخرى كما في سقف الكفاية، وصوفيا لمحمد حسن علوان، أو جاهلية ليلى الجهني. هذا التماهي هو من طبيعة شعرية. أي أن هناك وجهة نظر واحدة مهيمنة على السرد وكأننا إزاء سرد شعري وليس روائياً. كل هذا صحيح، لكن الأزمة في تصوري في اشتباك هذه الرؤى مع بعضها البعض، أبعد من ذلك، تكمن في أزمة تصوراتنا حول الكتابة. الأدب المحلي على العموم يصدر عن رؤية واحدة، نتيجة عوامل عديدة منها ما هو سياسي ومنها ما هو سوسيولوجي وعقائدي، ومنها ما هو ذاتي متعلق بالمبدع نفسه. وموقفنا من الكتابة له علاقة بتلك الرؤية بالتأكيد. وتفكيك هذه العلاقة والكشف عن سماتها من العمق، سيفضي حسب قناعتي إلى إثارة قضايا جوهرية تمس ثقافتنا المحلية،من قبيل التصورات التي ينتجها خطاب السلطة بجميع تشكلاته وأنواعه داخل المجتمع للأدب على سبيل المثال. أو علاقة مؤسسات السلطة بالكتابة وقيمتها التعليمية. وهكذا إلى آخر القضايا الملحة في وقتنا الراهن. @ الرواية السيكولوجية، التي تعتمد على قراءة الذات وتتوغل في الابعاد النفسية للشخصية الروائية ربما شبه غائبة عن المشهد المحلي.هل ترى بأن غياب الرواية السيكولوجية يعود إلى أن الروائي منجرف وراء لعبة كشف المستور في المجتمع وبالتالي سقط البعد النفسي في الرواية المحلية ؟ - هناك مفارقة في هذا الجانب، على الرغم ما نلاحظه من طغيان الأنا في السرد الروائي وهيمنت مؤثراتها على مجمل السرد، إلا أن هذا لم يتح لها التعمق في الأبعاد النفسية وتحليلها بطريقة حفرية، ينسجم مع كمية هذا الحضور أو الطغيان في السرد. وهذا بالتأكيد انسحب على أغلب الشخصيات في الرواية المحلية. ربما أحد أسبابه ما ذكرت، لأن هامش المسكوت عنه في مجتمعنا تراكم كثيرا، وأصبح ضاغطا على الشعور الاجتماعي، ولا بد له من الظهور، وكانت الرواية هي الأقرب. هذه واحدة من الأسباب، وهناك أخرى، أهمها فقدان المجتمع لحراكه الطبيعي، أي مجتمع بلا حوار سينعكس بالتأكيد على أدبه. لكنني أظن أن هناك استثناءات عديدة استطاعت من خلالها الرواية المحلية أن تتجاوز هذه المفارقة كرواية ميمونة لمحمود تراوري، والآخرون لصبا الحرز، وبحريات لأميمة الخميس. هذه الاستثناءات تأتي في سياق طبيعة المجتمع السعودي الذي هو شديد التنوع حد التنافر، وهو مفتوح على حركة التاريخ التي هي وثيقة الصلة بالتقاليد الدينية الإسلامية.