يظل مصطلح التجديد مصطلحا برّاقا وجذّابا، لا تجد أحدا يناصبه العداء كمصطلح ولكنك تجد الكثيرين ممن يحاولون إشاعة الكثير من الشوشرة على تمظهرات هذا المصطلح الجديدة ومحاولات تطبيقه في الفكر العربي والإسلامي المعاصر. ويزيد هذا المصطلح حساسية وترتكز حوله الكثير من الإشكاليات بين فرقاء الفكر والتطبيق حين يرتبط بشكل مباشر بالدين، ذلك أن التجديد حين يلامس مساحة من المقدس الحقيقي للبحث عن أفضل السبل للتعامل معها وتفعيلها، أو يخدش بقوة مساحات المقدس الزائف ليجلو عن حقيقتها التاريخية وارتباطاتها المباشرة بالبشري والإنساني الذي يتأثر بالضرورة بالظروف المحيطة التي يختلف باختلافها كثير من منتجات العقل البشري من مناهج تفكير وأساليب عمل، حين يلامس هذه المساحة ليتحدث بشكل مباشر عن التجديد الديني فإنه يثير الكثير من الأسئلة والإشكاليات وأحيانا الريبة لدى بعض التيارات التي تستند في مشاريعها الاجتماعية والسياسية على الدين كمنطلق أساس وهي التيارات التي يطلق عليها اصطلاحا " الإسلاميون" ومع تحفظي على هذه التسمية إلا أنني لا أمتلك بعد مصطلحا يعبر عن المراد دون الوقوع في المحاذير التي تحف باستخدام مصطلح الإسلاميين، وأنا حين عبرت مرة في إحدى الفضائيات عن تحفظي على وصفي ب"الإسلامي" انهالت علي اتصالات متعددة وانتقادات متفرقة، وأنا لا أتحفظ على هذا المصطلح حين يضاف إلي أو أضاف إليه، ولكنني أتحفظ عليه من حيث المبدأ سواء استخدم معي أم مع غيري، ذلك أنني لا أعرف في النصوص الشرعية وصف الإسلامي، وهذا بالتأكيد غير كاف لرد المصطلح، ولكن حين يكتنف هذا التعبير إيهام المخاطب بأن من لا يحمل هذا الوصف فإن في إسلامه شكاً أو نقصا، يكون التحفظ في مكانه. في النصوص يوجد وصف المسلمين بأنهم مسلمون "هو سماكم المسلمين من قبل" كما في الآية الكريمة، فهل هؤلاء المسلمون اليوم من شرق العالم إلى غربه متهمون بالنقص في تدينهم وإسلامهم إن لم يكونوا على مقاسات مواصفات الجودة التي تشترطها التيارات الإسلامية! وبناء على هذا فإن وصف المسلم ينطبق على جميع المسلمين وهو وصف محايد ولكن وصف الإسلامي في استخدامه المعاصر لا ينطبق على جميع المسلمين وإنما تحاول احتكاره فئة معينة من التيارات الفكرية التي تقدم قراءة خاصة للدين والنص الديني وهي تبعد بذلك جميع الشرائح الفكرية الأخرى في المجتمع المسلم من جنة هذا المصطلح الخاص والمحدث. عموما بالعودة إلى السؤال الأساس في هذا المقال وهو هل تجديد الخطاب الديني ترف أم ضرورة، فإن ثمة عددا من القراءات لمثل هذه الدعوة، فمن يرى أنها مجرد ترف وكلام في الفراغ وتنظير أجوف لا يقف على أرض من المعرفة والواقع صلبة، إلى من يرى أنها ضرورة حياتية للفرد المسلم وللمجتمع المسلم ككل، وبين هذا وذاك مساحات من الاختلاف والتباين تتقاسمها التيارات والرموز الفكرية كل حسب موقعه الذي يختاره. ولكنني أحسب أننا حين نعيش اليوم في حالة مستمرة من تسلسل الضرورات المعيشية والحاجات الاجتماعية والالتزامات السياسية والاقتصادية التي لا تترك لنا مجالا كبيرا للمناورة والحركة وإنما تقمعنا جميعا تحت مطرقة إلحاحها وقوتها، وتتحكم بالتالي في حجم خياراتنا المتاحة وحين يشكل الخطاب الديني - مع غيره - عائقا دون إيجاد الحلول والمخارج من كل هذه التحديات فلا يمكن لعاقل أن يحدثنا عن ترف الدعوة لتجديد الخطاب الديني. وحين يتحول أبناء المسلمين إلى قنابل بشرية متنقلة، وإلى كتل بشرية ممتلئة بالكراهية لكل من يخالفها، فلا يمكن لعاقل أن يحدثنا عن ترف الدعوة لتجديد الخطاب الديني. وحين يرمينا العالم عن قوس واحدة ويتهم مجتمعاتنا وأفرادنا ومؤسساتنا وشعوبنا وحكوماتنا ومناهجنا بل وديننا يتهم كل ذلك بالتطرف والإرهاب ونجد أنفسنا ومبادئنا وأفكارنا في قفص الاتهام، فلا يمكن لعاقل أن يحدثنا عن ترف الدعوة لتجديد الخطاب الديني. ويزداد الأمر قسوة وإلحاحا علينا حين نكتشف أن لدينا بالفعل مجموعة من الأخطاء والانحرافات في خطابنا الديني وأنها عبارة عن حمولات تاريخية بشرية ألصقت بالخطاب الديني حتى أصبحت هي المتحكم الرئيس به والمعبر الأعلى صوتا عنه بعيدا عن مركزية النصوص الشرعية وإطلاقيتها، وأن مسؤوليتنا اليوم مضاعفة في سبيل إيجاد طريق جديد لنقل صورة ديننا وثقافتنا لأنفسنا وللعالم كله، وأن مسؤوليتنا مضاعفة في خلق خطاب ديني قادر على تنقية المقدس الحقيقي مما علق به من مقدسات زائفة على طول التاريخ الإسلامي، مهما كانت مكانة تلك المقدسات الزائفة وضخامتها، مع انتباهنا لأمرين هامين الأول أن تنقية المقدس الحقيقي من المقدس الزائف فيه خدمة حقيقية للدين نفسه، والثاني أننا حين ننفي القداسة عن المقدس الزائف فإن هذا لا يعني - دائما - أن نحتقره أو نقلل من تقديره إذا كان يستحق شيئا من ذلك، بل على العكس فنحن عندما نزيل عنه هالة القداسة الزائفة نسدي بذلك خدمة له ولنا ولديننا. إننا بإزاء خطاب ديني فيه الكثير من العطب والخلل والوقت يداهمنا والضرورات اليومية تضغط علينا كي نسعى بجد واستعجال عاقل في سبيل إصلاح الأعطاب والانحرافات في هذا الخطاب. إن خطابا يعاني من أزمات متعددة على مستوى الفكر والتطبيق والسلوك لهو جدير بالمراجعة الحقة والعاجلة، فالخطاب الديني يعاني من أزمة في ترتيب الأولويات حيث تشكلت أولوياته التي يطرحها في ظروف تاريخية سابقة ليس لها علاقة بأولوياتنا المعاصرة فكريا واجتماعيا وسياسيا، كما يعاني أزمة في تضخم المرجعيات والحجيات بحيث لم تبق السيطرة المطلقة والمرجعية الحاسمة مقصورة على نصوص الوحي وإنما ألحقت بها الكثير من المرجعيات التي يعاد إليها عند الاختلاف، ثم هو كذلك يعاني من أزمة في الحوار مع الآخر الثقافي والآخر المسلم، وأزمة كذلك في الذهنية نفسها، وغير ذلك كثير من الأزمات التي تثير القلق والتخوف إن لم تتدارك. إن ذهنية المنع والسدّ والإغلاق، والتشبث بالمنجز التاريخي عبر تمجيده ورسم صورة خيالية له، وهدر طاقات البناء والإيجابية عبر تكريسها للمنع والسدّ والمراقبة والرصد والحراسة تقضي على حيوية أي خطاب فكيف إذا كان خطابا دينيا !، ثم إن وظيفة الحارس ليست أبدا كوظيفة المطوّر. إن الخطاب الإسلامي لدينا ذو اتجاهات متعددة ومتباينة أحيانا، ولكنه يعاني في كثير من تجلياته من انحرافين أساسيين واحد ينحاز به لذهنية الحراسة التي مضى التنبيه عليها، وآخر يخضع لذهنية التثوير والجهاد، وتعبر عن الأول بعض التيارات السلفية المتشددة عقديا، كما تعبر عن الآخر تيارات الجهاد وجماعات العنف في العالم العربي والإسلامي، وهما أمران يجتمعان بشكل صارخ وفريد لدى تيار السلفية الجهادية الذي يكاد أن يكون الأكثر حضورا في المشهد "الإسلامي" اليوم. وبناء على هذين الانحرافين فقد تمركز لدى كل من هذين التيارين مجموعة من الأفكار التي يركز عليها في طرحه وخطابه الذي يعبر به عن نفسه من خلال الكتب والمقالات والفتاوى والمواقف، فتيار السلفية التقليدية يمركز في فكره وطرحه فكرة "الحراسة" وأفكار مثل "الثبات" و"الالتزام" و"السلف" و"سد الذريعة" وتيار السلفية الجهادية يمركز في فكره وطرحه فكرة "التثوير" و"الجهاد" و"القتال" وتشترك معه كذلك بعض التيارات الحركية الإسلامية في أفكار مثل "الحاكمية" و"البراءة" و"ملة إبراهيم" ونحوها. وقد غيبت مفاهيم كبرى في الإسلام كمفاهيم البناء والعمارة والاستخلاف في الأرض والرحمة والتعايش والتسامح ومحبة الخير للبشرية جمعاء لحساب أفكار مهترئة أثبتت ضررها لنا قبل ضررها لغيرنا. لذا فإنني أحسب أننا أمام تحد كبير في تبني دعوة صادقة لتجديد الخطاب الديني وإعادة هيكلته بشكل يضمن للنص نضارته ويضمن للواقع انسيابيته ويضمن للمسلمين والبشر جميعا تعايشا وسلاما ومحبة. إن إمكانية تجديد الخطاب الديني من داخله أمر قريب المنال وسهل المأخذ ولكنه يحتاج لعمل مؤسسي راسخ يستطيع تغطية المساحات الكبيرة من المهمل والمهمش في التراث الديني في كافة أنواع التخصصات التي يوجد فيها ما يمكننا من إعادة ترميم الخطاب الديني بعد التشوهات التي ألحقها به المنتسبون إليه قبل غيرهم، وكم وقفت متعجبا من دلالة نص من نصوص الوحي على مسألة ملأها الخطاب الديني تنظيرا معاكسا، وكم تأملت قولا لعالم معتبر من فقهاء المسلمين يختلف جذريا مع ما يطرحه الخطاب الديني المعاصر. وكم هي جميلة عبارات ابن تيمية حين يقول إن "الواجب أن يعطى كل ذي حق حقه، وأن يوسع ما وسعه الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعي ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية" (المجموع 19924) ويقول "فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع الله عليهم، وقد أراد رفع الحرج عن الأمة، فليس لأحد أن يجعل فيه حرجاً" (المجموع 42921)