تبدو الرواية السعودية وكأنها في زمن الحصاد، بعد سنوات من التكوين والتجريب، مدفوعة بجيل يؤمن بقوة الكلمة وسحر الحكاية. وفي مشهد أدبي يزداد توهجاً، تتصدر فئة الشباب دون الثلاثين واجهة الإبداع الروائي في السعودية، مُشعلين فتيل الدهشة في كل صفحة يخطونها. هؤلاء الكتّاب الجدد لا يكتبون لمجرد الحضور، بل يكتبون لأنهم يمتلكون ما يُقال، ويملكون أدوات قولهم، حضورهم ليس عابراً، بل عميقاً، ينبض بالحس المعاصر، وينقل نبض الشارع، وقلق الهوية، وتحوّلات المجتمع بلغة ناضجة، لا تشي بصغر أعمارهم. قبل عقود، كانت الرواية السعودية تتلمّس طريقها بهدوء، محصورة في زوايا المكتبات المحلية، ونقاشات النخبة الأدبية، لم تكن آنذاك أكثر من محاولات فردية للبوح والتمرد على الصمت. لكن المشهد تغير، واليوم تقف الرواية السعودية على أعتاب نضجٍ لافت، منافسة كبرى الأعمال العربية، ومرشحة للجوائز الأرفع في عالم الأدب. ولعل أهم ما يؤكد على هذا التحول هو الحضور اللافت للروايات السعودية في الجوائز الإقليمية والعالمية. فخلال عام 2024 وصلت أعمال سعودية إلى القوائم القصيرة والطويلة في أهم الجوائز، مثل جائزة غسان كنفاني، جائزة البوكر العربية، جائزة كتارا للرواية العربية، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، في إشارة واضحة إلى جودة المحتوى وتطور أدوات الكتابة لدى الروائيين السعوديين. في تقرير أعدته منصة أدب ماب، المتخصصة في متابعة الأدب السعودي وتقديمه بطريقة مبتكرة، كشفت الأرقام عن واقع جديد يُبنى بخطى واثقة. فبحلول عام 2024، بلغ عدد كتّاب الروايات السعوديين 269 كاتباً، نصفهم تقريباً من النساء (51 ٪)، في مشهد يشير إلى تنوع صوتي وثقافي غير مسبوق. اللافت في هذه الإحصائية أن الحضور الشبابي هو الأبرز؛ إذ إن 133 كاتباً أعمارهم لا تتجاوز 29 سنة، ما يؤكد أن الجيل الجديد بات يرى في الرواية وسيلة للتعبير وربما التغيير. كما أن هناك 79 كاتباً تتراوح أعمارهم بين 30 و39 عاماً، و35 كاتباً فقط تجاوزوا الأربعين. إن وجود هذا العدد من الكتاب الشباب لا يُعد مجرد رقم، بل هو دليل حيّ على اكتشاف طاقات سردية شابة كانت كامنة، تبحث فقط عن منبرٍ وفرصة. ولا تتوقف الأرقام عند الحضور فقط، بل تمتد إلى الإنتاج. ففي عام 2024 وحده، كُتبت أكثر من 64 ألف صفحة روائية، بمتوسط 240 صفحة للرواية الواحدة، صدرت عن 32 دار نشر. ومن بين هؤلاء الكتّاب، أصدر 20 كاتباً روايتين خلال العام، بينما تميز 7 كتاب بإصدار ثلاث روايات، وهو مؤشر على حيوية الساحة وتفاعلها. هذا الحراك اللافت هو نتيجة لتكامل عدة عوامل؛ أبرزها الدعم الثقافي المؤسسي، والمبادرات النوعية التي تستهدف تنمية المواهب الشابة، مثل ورش الكتابة وبرامج النشر المبكر والمهرجانات الأدبية، حيث باتت الساحة الأدبية السعودية بيئة خصبة تتغذى على التنوع والانفتاح، وتُتيح للكاتب أن يكتب دون أن يُفرض عليه قالب، أو يُحاصر برؤية واحدة، كما أن الأوساط الثقافية باتت تدرك أن هذا التألق هو تحوّل بنيوي يعكس وعي جيل كامل، يرى في الأدب مرآةً لذاته ومجتمعه، وإن استمرار هذا الزخم يتطلب مزيداً من الرعاية حتى تخرج هذه الأصوات الشابة إلى العالم، حاملة معها الحكاية السعودية، بكل ما فيها من تنوع وتجدد وغنى إنساني. رحلة الرواية السعودية لم تبدأ من هنا، فقد سبقتها محطات مليئة بالتحدي، من روايات الطفرة الاقتصادية التي ركزت على التحولات المجتمعية، إلى الروايات النسوية التي كسرت حواجز التابوهات، وصولاً إلى روايات اليوم التي تُعالج قضايا الهوية، الذات، والتحولات الاجتماعية العميقة.