"لام شمسية" ليس مجرد مسلسل درامي، بل هو مرآة عاكسة لواقع يعاني من أزمات أخلاقية واجتماعية، بجرأته في طرح القضية، وبواقعيته في تصوير تفاصيلها، استطاع العمل أن يجمع بين الإبداع الفني والمسؤولية الإنسانية، وهو ما يجعله نموذجاً يحتذى في كيفية استخدام الدراما كأداة لمواجهة الظواهر السلبية، دون الوقوع في فخ الإثارة أو الاستهلاك الرخيص.. في عالم يعج بالتابوهات؛ يأتي مسلسل "لام شمسية" كصرخة فنية واجتماعية تحطم الصمت المريب حول قضية التحرش الجنسي بالأطفال، العمل يعتبر واحداً من أجرأ الأعمال الدرامية في العالم العربي، ليس فقط لجرأته في طرح القضية؛ بل لقدرته على توظيف الفن كأداة لتعزيز الوعي وتفكيك الموروثات الاجتماعية التي تغلف الجرائم بعباءة الصمت. اعتمد المسلسل -المكون من 15 حلقة- على سرد واقعي يعكس حياة الضحايا وأسرهم بتفاصيلها المرة، فشخصية "نيلي" (أمينة خليل)، المعلمة التي تكتشف تعرض ابن زوجها "يوسف" (علي بياضي) للتحرش، تجسد رمزية الأمومة الواعية التي تقاتل من أجل كشف الحقيقة، حتى لو كلفها ذلك مواجهة مجتمع يفضل دفن الجراح تحت سجادة العادات والتقاليد.. هنا، تبرز قوة السيناريو في ربط القصة الشخصية بالهم الجمعي، حيث تتحول رحلة "نيلي" من البحث عن حل فردي إلى مواجهة مع نظام يهمل حماية الأطفال. كما استفاد العمل من اللغة البصرية لتعزيز رسالته. فالإضاءة الشاحبة في بعض المشاهد، والتركيز على تفاصيل الوجوه المتعبة، ينقلان مشاعر الضحايا بصدق مؤلم، حتى أن استخدام الرموز -مثل "اللام الشمسية" في عنوان المسلسل- لم تكن عشوائية؛ فحرف "اللام" في اللغة العربية يكتب دون نقاط، كناية عن "الصمت" الذي يحيط بالقضية، بينما تشير "الشمسية" إلى الحاجة لفضح هذه الجرائم تحت نور الحقيقة. لم يكتفِ المسلسل بسرد الوقائع، بل تعمق في الآثار النفسية المترتبة على التحرش، سواء على الضحايا أو أسرهم، فمشاهد انسحاب الطفل "يوسف" من العالم الخارجي، واضطرابات النوم التي يعاني منها، تظهر بواقعية كيف يتحول البراءة إلى كابوس يومي، كما ركز على ردود أفعال الأهل، بين الإنكار والخوف من الفضيحة، ما يعكس صراعا داخليا بين الحماية الاجتماعية والالتزام الأخلاقي. ولم تغفل الدراما تأثير الصدمة على المدى الطويل، حيث تناولت شخصيات بالغة ما زالت تعاني من اضطرابات نفسية نتيجة تجارب الطفولة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة واضطراب فرط الحركة. هذه المعالجة أعطت العمل عمقا إنسانيا، وجعلته أشبه بوثائقي درامي يذكرنا بأن الجراح لا تشفى بمجرد مرور الوقت، بل بالاعتراف والدعم النفسي. أثار المسلسل جدلا واسعا منذ عرض حلقاته الأولى، ليس بسبب جرأته فقط، بل لأنه كشف عن هشاشة النظام الاجتماعي في مواجهة الانتهاكات، ففي حين أشاد كثيرون بجرأة العمل ودوره في توعية الأسر حول أهمية الحوار مع الأطفال، انتقد آخرون طريقة العرض، معتبرين أنها قد "تروج" للجريمة أو تربك المشاهدين، لكن هذه الانتقادات نفسها تثبت أن المسلسل نجح في إشعال نقاش عام حول قضية ظلت لعقود في الظل. كما أسهم العمل في تشجيع ضحايا التحرش على كسر صمتهم، خاصة مع تزامن عرضه مع حملات إعلامية لدعم حقوق الأطفال، ولم تكن المؤسسات الرسمية بمنأى عن هذا التأثير، حيث أشادت الدكتورة نور أسامة، عضو المجلس القومي للأمومة والطفولة، بالتعاون مع صناع المسلسل لتسليط الضوء على ضرورة وجود قوانين رادعة. "لام شمسية" ليس مجرد مسلسل درامي، بل هو مرآة عاكسة لواقع يعاني من أزمات أخلاقية واجتماعية. بجرأته في طرح القضية، وبواقعيته في تصوير تفاصيلها، استطاع العمل أن يجمع بين الإبداع الفني والمسؤولية الإنسانية. وهو ما يجعله نموذجا يحتذى في كيفية استخدام الدراما كأداة لمواجهة الظواهر السلبية، دون الوقوع في فخ الإثارة أو الاستهلاك الرخيص. لم يكتف "لام شمسية" بتسليط الضوء على الضحايا فحسب، بل كشف عن دور الإعلام في تشكيل الوعي أو تعطيله. ففي الوقت الذي تظهر فيه بعض الأعمال الدرامية العنف ضد الأطفال ك"حدث عابر"، تجاوز المسلسل هذا النمط بتناوله القضية كأزمة مجتمعية مركبة. كما أشار العمل إلى تقصير المؤسسات التعليمية في توعية الأطفال، عبر شخصية معلمة المدرسة التي تحاول دون جدوى إدخال مفاهيم الحماية الشخصية إلى مناهج الطلاب. علاوة على ذلك، ركز المسلسل على فكرة "الإفلات من العقاب" التي تغذي جرائم التحرش، حيث جسد شخصية الجاني الذي يستغل سلطته الاجتماعية لقمع الأصوات المعارضة، هذه المعالجة دفعت النقاد إلى المطالبة بقوانين أكثر صرامة، مثل ربط عقوبة التحرش بسن الضحية. وهكذا، حول العمل الدرامي الجريمة من سرد فردي إلى قضية قومية، تذكرنا أن الفن قادر على أن يكون سلاحا للعدالة حين يلتزم بالمسؤولية الاجتماعية. في النهاية، يبقى السؤال: هل يكفي أن ننير الظلام بالفن، أم أننا بحاجة إلى خطوات فعلية على أرض الواقع؟ مسلسل "لام شمسية" قدم جزءاً من الإجابة، لكن الباقي مسؤوليتنا جميعاً.