يتجه الكثير إلى تأكيد أنه من الصعوبة بمكان خلق هويات مادية صلبة في وقتنا المعاصر، فالبشر، وإن كانت بعض القيم والمبادئ والايديولوجيات لا تزال تجمع مجموعات منهم، إلا أنه يصعب القول إن هذا انعكس على شراكتهم لتوجهات مادية/ بصرية محددة يمكن أن نعتبرها مرجعًا لهم وتمثل هويتهم المادية.. منذ أكثر من عشرة أعوام طرحت فكرة "الهوية السائلة"، وقد تناولتها في مقالات متفرقة في هذه الصحيفة الغراء، وهي فكرة تركز ببساطة على حالة عدم اليقين التي يعيشها العالم نتيجة لهيمنة المادية الغربية والتقنيات الاستهلاكية المتلاحقة التي نتجت عنها وهيمنة ظاهرة "السوق" التي توجه اختيارات الأفراد والجماعات. هذه الظاهرة لم تترك للتكتل الجماعي التقليدي أي فرصة للمقاومة والاستمرار كي يعبر عنه "هويته" الصلبة المتماسكة التي كانت عليها المجتمعات السابقة. مؤخرا نُشر كتاب بعنوان "الشر السائل: العيش مع اللابديل" للمؤلفين "زيجومنت باومان وليونيداس دونسكيس" وبالأحرى الكتاب عبارة عن حوار بين المؤلفين حول "الحداثة الصلبة" التي ساد فيها العقل و"الحداثة السائلة" وهي مرحلة ما بعد الحداثة التي تفككت فيها قيم ومفاهيم الحداثة الصلبة ولم يعد للثوابت التأثير التي كانت عليه. مفهوم "المرجعية السائلة" يشير إلى "اللامرجعية" أي أن البشر في واقع الأمر مع كل هذه التطورات المادية والتقنية بدأت تتلاشى الروابط الثابتة التي تجمعهم وتوحد أهدافهم رغم الانفتاح الكوني بين البشر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. الكتاب يؤكد أن البشرية تعيش مرحلة "اللابديل"، أي أنه لا يوجد خيارات أمام الأفراد إلا أن يعيشوا الهوية السائلة. هذا الكتاب ضمن سلسلة من الكتب أشار لها الأستاذ عبدالله الرخيص في عرضه لهذا الكتاب وهي "الحداثة السائلة، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الثقافة السائلة، الحب السائل، الأزمنة السائلة" وجميعها تركز على سيولة الثوابت والروابط التي تجمع البشر. على أن هذا المقال ليس مراجعة لهذه الكتب لكن من أجل تأكيد أن مصطلح "الهوية السائلة" الذي اعترض عليه البعض خلال السنوات الفائتة في العديد من المناسبات التي طرحت فيها الفكرة، يمثل ظاهرة متنامية لا يمكن إيقافها كونها جزءا من التطور الذي تعيشه البشرية، إذ لم يعد بالإمكان القول إن هناك إمكانية لخلق هوية صلبة يمكن أن تصمد لفترة طويلة. ما يضيفه الكتاب هو أن على البشرية أن تعيش مع "اللابديل" أي أنه لا يوجد خيارات أخرى أمام البشر إلا أن يعيشوا هذه الهوية السائلة وأن يتعايشوا معها. الهوية السائلة تؤكد هيمنة "الفرد" على القرار وعلى تفسير القيم، ومع ذلك يجب أن نشير إلى أن بعض الثوابت التاريخية الدينية على وجه الخصوص لا تزال فعالة في خلق نوع من المظهر الاجتماعي العام، وهي مظاهر بدأت تتراجع في بعض المجتمعات، خصوصا الغربية، لذلك غالبا ما يصاب الإنسان الغربي بالدهشة عندما يرى جموع المصلين الغفيرة يوم العيد. الأسئلة التي باتت تطرح بقوة في الفترة الأخيرة مرتبطة بقدرة هذه المظاهر على خلق "هوية صلبة" متماسكة خارج إطار ممارسة تلك الطقوس والشعائر، فالحج على سبيل المثال شعيرة جماعية تصنع "هوية صلبة" وصورة ذهنية موحدة تخلق مفهوم "الأمة" لكن إلى أي مدى يمكن للحج أن يحافظ على مبادئ "الهوية الصلبة" لدى الأفراد ويخلق منهم كيانا يفكر بطرق متقاربة ويمارس الحياة بأسلوب متقارب؟ نحن نتحدث عن "القيم والمبادئ" غير المادية التي يمكن أن تساهم في خلق "هوية صلبة" يتفق حولها مجموعة من البشر، فهل هذا الأمر ممكنا في وقتنا الراهن وفي المستقبل؟ يتجه الكثير إلى تأكيد أنه من الصعوبة بمكان خلق هويات مادية صلبة في وقتنا المعاصر، فالبشر، وإن كانت بعض القيم والمبادئ والايديولوجيات لا تزال تجمع مجموعات منهم، إلا أنه يصعب القول إن هذا انعكس على شراكتهم لتوجهات مادية/ بصرية محددة يمكن أن نعتبرها مرجعا لهم وتمثل هويتهم المادية. لقد حدثت ثورة غير مسبوقة في الذائقة البشرية ومعايير الجمال التي يلتزمون بها وأحدثت هذه الثورة خللا كبيرا في الاتفاق الجماعي البشري حول معايير الذوق الجمالي انعكس مباشرة على الهوية المادية الصلبة وحولها إلى هوية فردية سائلة يصعب جمع الناس حول أي منها. لذلك فإن أي محاولة لخلق هويات مادية ستبوء بالفشل، لأن الهويات غير المادية ذاتها تعيش صراع بقاء وربما يكون كثير منها في طريق الزوال. مصادر الهوية ومرجعياتها لم تعد موحدة، ولا يتفق على الناس، ولن أقول لا يتفق عليها اثنان من البشر، وبالتالي يجب ألا نتوقع حدوث تغيير، حتى لو وضعنا أدلة ونظما وقوانين تلزم الناس بأنماط مادية محددة نعتقد أنها تعبر عن هويتنا الصلبة. الإشكالية تكمن في الحراك الاجتماعي البيني الذي يحدد علاقات الناس ويوجه أنماط حياتهم، فما هو مشترك أصبح أقل بكثير مما هو فردي. ربما هذا ما هدفت له العولمة التي أصبحت ظاهرة مع مطلع القرن الجديد، إذ يبدو أن خلق هوية بشرية سائلة تميز هذا القرن وتلغي الهويات الخاصة بدأ جليا مع تصاعد الحرب الضروس على القيم المحلية وتحجيمها، فمبدأ "فكر محليا واعمل كونيا" انقلب وأصبح "فكر كونيا واعمل محليا".. فبينما كانت المهمة هي نقل القيم المحلية إلى العالم، أصبح الواقع هو نقل قيم العالم المضطرب غير المتفق عليه إلى الثقافة المحلية من أجل اجتثاثها من الجذور. العالم يواجه أزمة سيولة للقيم وللهويات المحلية وسيدفع ثمنها البشر غاليا في المستقبل، فكأن البشرية تعود إلى سيرتها الأولى عندما كانت مجتمعا واحدا بسيطا.. هذه المرة البشرية تتحول إلى مجتمع متلاطم بهوية سائلة تعبر عن التشرذم الذي بلغته الحضارة الإنسانية.