يعيش العالم اليوم على وقع تحوّلات غير مسبوقة طالت كل جوانب الحياة، وفي مقدمتها التحول الرقمي الذي بات يفرض إيقاعه السريع على تفاصيل وجودنا اليومي، حتى تسلّل إلى بنية الثقافة ذاتها، محدثًا زلزلة في المفاهيم، وإعادة تشكيل للقيم، وتحديات جديدة لمفهوم الإنسان والمعرفة. في هذا التحقيق، نستعرض رؤى مجموعة من المفكرين والنقاد حول هذا التحول، بين من يراه تهديدًا للإنسانية ومن يعدّه أفقًا للنهضة الجديدة، متسائلين عن موقعنا كمجتمعات عربية وسط هذا الإعصار الرقمي. تحولات ما بعد الإنسان يبدأ أ.د. عادل خميس، أستاذ النقد الحديث بجامعة الملك عبدالعزيز، حديثه بالقول: «سؤالك يقع في صميم النقاش المحتدم داخل خطاب ما بعد الإنسانوية، حيث لم تعد التقنية مجرّد أدوات، بل باتت قوة فاعلة تُعيد تشكيل الإنسان نفسه، وقيمه، وهويته». ويستشهد بخطاب الباحثة روزي بريدوتي التي ترى أن ما بعد الإنسانوية هو توصيف دقيق لوضعنا الراهن، حيث تتشابك ثلاثة تحولات كبرى: اتساع الهوة الاجتماعية بفعل التوزيع غير العادل للثروات والتقنيات وتفكك الكوكب بفعل الأزمات المناخية والأوبئة وإعادة تعريف الإنسان من خلال علوم الجينوم والروبوتات والنانو ويتابع الدكتور عادل: «نحن أمام مستقبل لا ملامح له إن لم نشارك في صناعته. وحتى نخرج من دور المستهلك السلبي، علينا أن نكون جزءًا من إنتاج الثقافة الرقمية لا مجرد مستهلكين لها. آنذاك فقط يمكننا الحديث عن القيم والأخلاقيات». سلطة تشكّل الذوق العام أما أ.د. أشجان محمد هندي، فتضع يدها على بعد آخر من التحول، إذ ترى أن الفضاء الرقمي بات سلطة فوقية تشكّل الذوق الجمعي وتعيد صياغة القيم الثقافية من الداخل. تقول: «الإنترنت اليوم لا يعكس الواقع فحسب، بل ينافسه بل وقد يتفوق عليه. لقد غدا العالم الرقمي هو الواقع ذاته، بكل ما يعنيه من تشكّل جديد للهوية، وتحولات في الذائقة». وتؤكد أن منصات التواصل أصبحت لاعبة رئيسية في توجيه الأذواق، وفرض أجناس أدبية بعينها، وربما تهميش أخرى. فحين يُصدر ناقد أو كاتب مؤثر رأيه في منصة رقمية، فإنه يُحدث تحولاً في الذائقة العامة، ما يجعل هذه المنصات سلطة معيارية حديثة تتحكم في المشهد الثقافي بأسره. تلاقح القيم وخطر طمس الهويات ومن زاوية أكثر شمولًا، يرى د. محمد سناجلة، رئيس اتحاد كتّاب الإنترنت العرب، أن الثورة الرقمية قلبت موازين الثقافة التقليدية، وأننا نشهد ولادة «الإنسان الرقمي» المندمج في فضاء جديد بلا حدود. يقول: «الثقافة لم تعد مجموعة ثابتة من القيم، بل نظام ديناميكي يتفاعل داخليًا مع مجتمعه، وخارجيًا مع التكنولوجيا العابرة للحدود». ويُشدّد على أن المنصات الرقمية أسهمت في تلاقح غير مسبوق للقيم والعادات والتقاليد، لكنها في الوقت ذاته تطرح تحديات تتعلق بفرض سرديات ثقافية مهيمنة وتهميش الهويات الأخرى، لا سيما في عالمنا العربي. ويختم سناجلة برؤية مثيرة للجدل: «ما نعيشه اليوم من حوار حر على المنصات الرقمية، بعيدًا عن أي وصاية، هو فرصة تاريخية لتفكيك المسكوت عنه وإعادة صياغة الذات العربية. قد يراه البعض انفلاتًا، لكنني أراه فتحًا جديدًا على صعيد الوعي والتكوين». التجربة السعودية أنموذجًا ورغم هذه التحديات، فإن التجربة السعودية في مجال التحول الرقمي الثقافي تمثل نموذجًا طموحًا ومُلهمًا، كما تقول د. أشجان هندي، مشيدة بالدور الريادي الذي لعبته وزارة الثقافة ضمن رؤية المملكة 2030، من خلال تبني استراتيجيات واضحة تدمج التقنية في المشروع الثقافي الوطني، وتعمل على تعزيز إنتاج المحتوى الرقمي المحلي، ودعم المبدعين في الفضاء الجديد. ما بعد التحول.. من نحن؟ إننا لا نقف أمام موجة عابرة، بل أمام تحوّل بنيوي يعيد صياغة الإنسان، واللغة، والهوية، والمعرفة. ومن هنا، لا يكفي أن نرصد هذا التحول، بل ينبغي أن نشارك في توجيهه، عبر خطاب نقدي، ومشاركة فاعلة، ومساءلة دائمة لما ننتجه ونستهلكه. فالتحول الرقمي ليس مجرد خيار تقني، بل سؤال وجودي عميق: من نحن في زمن العوالم المتشابكة؟ د. أشجان هندي د. عادل خميس