هل حدث معك في أحد الأيام وبينما كنت تتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، وظهر لك إعلان يقول: "أنت شخص يمتلك إمكانات هائلة لم تستغلها بعد، لكنك أحيانا تشك في قراراتك.. واكتشف المزيد عن شخصيتك من خلال هذا الاختبار". وبفضول ضغطت على الرابط، ووجدت نفسك أمام عبارات عامة مثل: "أنت تحاول الموازنة بين طموحك وعلاقاتك، لكنك تخفي مشاعرك الحقيقية عن الآخرين". المفاجأة.. هي شعورك أن هذه الكلمات كتبت خصيصا لك لكن الحقيقة كانت مختلفة؛ فهذه هي ظاهرة (تأثير بارنوم)، وهي لعبة العقل التي تجعلنا نصدق أن التصريحات الغامضة تخصنا وحدنا، رغم أنها قد تنطبق على الملايين. القصة وراءها الفنان الأميركي (ف. تي. بارنوم)، الذي أسس سيركا مشهورا في القرن التاسع عشر، وكان يعلن عن عروضه أنها "تناسب جميع الأذواق"، ما يعني أن كل شخص سيجد شيئا يرضيه، لكن العلماء لم يدركوا آليات هذه الظاهرة إلا في منتصف القرن العشرين. في عام 1948، أجرى عالم النفس (بيرترام فورير) تجربة بسيطة أدهشت الجميع: قدم لطلابه تحليلا لشخصيتهم مؤلفا من 12 عبارة عامة مثل: "أحيانا تشعر بعدم اليقين تجاه مستقبلك، لكن لديك قدرة على التحمل". العجيب أن 85 % من الطلاب اعتقدوا أن التحليل كتب خصيصا لهم، رغم أن الكل تلقى نفس النص هكذا أصبحت الظاهرة تعرف أيضا باسم "تأثير فورير". تخيل أنك تجلس في مقهى مع صديق، فيهمس لك: "أنت شخص اجتماعي، لكنك تحتاج إلى العزلة أحيانا". هل ستتعجب من دقته؟ الحقيقة أن هذه الجملة مصممة لتخدعك عبر ثلاث آليات، أولها الغموض الذي يناسب الجميع؛ فالعبارات مثل "أنت تحاول تحقيق التوازن بين العمل والحياة" أو "لديك طموحات خفية" وهي واسعة لدرجة أنها تنطبق على 90 % من البشر، وفق دراسة في مجلة علم النفس التجريبي عام 2012. ثاني آلية هي التحيز التأكيدي؛ فعقلك يلتقط ما يتوافق مع معتقداتك ويتجاهل البقية، فإذا قيل لك: "أنت كريم، لكنك تتردد أحيانا في مساعدة الآخرين". ستركز على "الكرم" وتتناسى أنك رفضت إقراض صديقك مالا الأسبوع الماضي.. الآلية الثالثة هي الطعم الإيجابي؛ حيث وجدت دراسة في جامعة كامبريدج عام 2020 أن 70 % من الناس يثقون بتحليل شخصية إيجابي حتى لو كان عاما. فالعبارة: "أنت مبدع ولم تستغل إمكاناتك" تشعرك بالتميز، حتى لو كانت حقيقية بنسبة 1 %. التأثير في حياتنا اليومية هو من الأبراج إلى التنبؤات الوهمية؛ فكم مرة قرأت تنبؤا مثل: "الميزان يسعى للتوازن، لكنه يتردد في اتخاذ القرارات"، فهذه الجملة تنطبق على أي إنسان، ومع ذلك، كشف استطلاع مركز بيو للأبحاث عام 2021 أن 29 % من الأميركيين يؤمنون بتأثير الأبراج على حياتهم. وعندما يشارك أحدهم في اختبارات مثل: "أي شخصية كرتونية تعكسك؟"، النتائج غالبا ما تكون مثل: "أنت بطل شجاع يحب المغامرات"، وهي صفات ترضي الأنا لكنها لا تضيف جديدا. وفي تجربة شهيرة، قدم الباحث جيمس راندي وصفا عاما لشخصية مجموعة أشخاص، ثم أخبرهم أنه تنبأ بها مسبقا. صدّق 80 % منهم التنبؤ، رغم أنه كان مجرد كلمات فضفاضة. يقول عالم الفلك كارل ساغان: "التنجيم ينجح لأنه يمنحك جملا غامضة عن نفسك، ثم تبحث عن معناها في حياتك". ويقول ستيفن بينكر: "العقل البشري مبرمج لاكتشاف الأنماط، حتى لو كانت وهمية، وهذا ما يجعلنا نصدق التصريحات الغامضة". التأثير ليس شريرا بطبيعته؛ ففي التعليم، قد يستخدم المعلمون عبارات مثل: "أنت قادر على النجاح إذا بذلت جهدا" لتعزيز الثقة. وفي التسويق تنجح الحملات التي تقول: "هذا المنتج مصمم لكِ، لأنكِ فريدة" في جذب العملاء. لكن الخطر يكمن في الاستخدامات الخادعة، مثل بيع "استثمارات فلكية" أو استغلال الناس عبر التنبؤات الكاذبة. حتى نحمي أنفسنا؛ لا بد من التشكيك في العموميات، واسأل: هل هذه العبارة تنطبق على أخي؟ جاري؟ 90 % من البشر؟، ولا بد من البحث عن الدقة، واطلب تفاصيل ملموسة لا تحتمل التأويل، مثل: "أنت تكره طعم الشوكولاتة" بدلا من "أحيانا تشك في اختياراتك"، ولا بد من الوعي بالتحيزات، وتذكر أن عقلك يبحث عن معنى حتى في الفراغ. تأثير بارنوم يذكرنا أن البشر يسعون لفهم ذواتهم، لكنهم أحيانا يقعون في فخ الإيهام. كما قال كارل يونغ: "الوهم ضروري، لكن الحقيقة وحدها تحررنا"، لذا لا بد أن نحتفظ بحس نقدي، نؤمن بإمكاناتنا، لكننا نرفض أن نكون ضحايا كلمات فضفاضة تصاغ لكل شخص.. إلا واحد.