برغم أننا نُصاحب أنفسنا مُنذ ولدنا، ونعرف تفاصيل خيباتنا ونجاحاتنا الماضية، ونُمسك قلم الحاضر لنرسم به مستقبلنا، فإن البعض مازال يحتاج لمن يُحدّثه عن نفسه وماضيه وحاضره أكثر! وبوسائل كثيرة تفنّن فيها بائعو الحديث لاستجلاب هذه الفئة المهووسة ب»الأنا» في أنفسهم. يبدو الأمر مُثيراً -في مظهره العام- وهو أن هناك شخصية تلتقيها للمرة الأولى ولا تتعامل مع الجن، لتبدأ بالتحدث لك عن بعض ملامح شخصيتك، وعن بعض ماضيك، بل والأروع بإمكانها التنبؤ بمستقبلك! فهل سألتم أنفسكم ما هو المنهج الذي يتاجر به أصحاب تحليل الشخصية بالاختبارات، وأصحاب التنبؤ بالمستقبل ومعرفة ماضي الشخص الذي يرونه لأول مرة؟ إنها خديعة كُبرى، نحن من نُوجد الرابط العجيب بين ما يبيعوننا إياه من تنبؤات وتحليلات بتفاصيل حياتنا. كمثال على ذلك -نظرية المنضدة المستديرة- التي ظهرت في أواسط القرن ال19 الميلادي في أمريكا الشمالية، ووصلت إلى بريطانيا وبلدان أوروبا وشبه القارة الهندية. تعمل هذه النظرية بوجود طاولة مستديرة يجلس خلفها من يُريد الالتقاء بإحدى الأرواح؛ لمعرفة المستقبل، أو الاطمئنان على حاله، بواسطة أحد الدجالين الذين يدّعون إحضار الروح، التي ما إن تحضر حتى تبدأ المنضدة بالدوران وإرسال رسائل تحذير أو بعض الطلبات من تلك الروح لذلك الشخص، ومن تلك الرسائل التي يدّعي الدجالون أنهم تلقوها من الأرواح: (رجلٌ طويلُ القامة يجاورك، كن على حذر منه) (لا تغتم كثيراً لبعض الأماني؛ فإنها ستتحقق تدريجياً) (يصلك خبر مفجع في الأسبوع المقبل، وإذا لم يصل ففي الشهر المقبل أو السنة المقبلة) في الحقيقة، أمثال هذه الجمل العامة جداً لا يُمكن الاستدلال بها على صحة هذه النظرية وصحة وجود روح أرسلت هذه التحذيرات والتنبؤات!إذ إنها تنطبق على كل أشخاص العالم، فكل شخص منا لديه عدد كبير من الجيران ولابد أن يكون بينهم شخص طويل القامة، وكلنا يملك الكثير من الأماني بعضها لم يتحقق بعد، كما أن الدنيا ليست أخباراً مفرحة دائمة فقط، وبين الفينة والأخرى تصلنا أخبار مزعجة! الأمر ذاته يسير مع أصحاب «اعرف شخصيتك بهذا الاختبار» و»مستقبلك والأبراج»، وهلم جراً من هذه الأمور. الكثير منا يُصدق، بل ويُدهش من ذلك، وما إن يُلقي (بائع الحديث) عباراته العامة حتى يبدأ المُشتري بإيجاد رابط بين العبارة العامة وبين حياته الشخصية، فلو قال له بُرْجُه (يحتاج مولوداً ... إلى نصائح صديق مقرب لاتخاذ قرارات مهمة، لا تتردد بالاستعانة بمن تثق بآرائهم) لرأيته يجتهد في إيجاد الرابط بين هذه الجملة وبين القرارات الكثيرة في حياته ليثبت صحة هذه العبارة! في حين أننا لو نظرنا لها بواقعية وبتجرد من عالم الأبراج، لوجدنا أن كلاً منا سواء كان مولود الأرض أو المريخ، حياته لا تخلو من قرارات مهمة، وبطبيعة الحال القرارات المهمة تستدعي الاستعانة بالأشخاص الثقة بكل تأكيد، وليس الأشخاص عديمي الثقة! فلم تُلصق هذه العبارة في أصحاب برج دون غيره، رغم أنها تناسب كل البشر؟ سوى أنه الدجل وبيع العبارات العاملة على العامة من الناس.