في عالم تتغير فيه معايير الجمال بسرعة، وتفرض منصات التواصل الاجتماعي صورة مثالية مفرطة للجمال، تبرز تساؤلات ثقافية عن مستقبل العيوب الخَلقية البسيطة طبيًا كالغمازات والفلجة وحبة الخال وغيرها، التي تقبلها المجتمع، ودمجتها الثقافة الشعبية ضمن مصفوفة الجمال الطبيعي والتصالح مع الجسد، وبالتالي تبرز أهمية تحليل التعقيدات الثقافية والاجتماعية للجمال. ثمة أبعاد ثقافية تشكل مصادر معايير الجمال، وهي البعد التاريخي والموروث الشعبي والبعد النفسي، وجميعها تتعرض للضغط في عصر الجمال المثالي وفلاتر الوجه وعمليات التجميل، مما أقصى المعايير الثقافية والنفسية ومبدأ تقبل الذات، وافتقد كثير من الناس ثقتهم بجمالهم الطبيعي. وثقافة التراث العربي والموروث الشعبي، مفعمة بالأشعار والأمثال والقصص التي تحتفي ببعض العيوب الخلقية الجميلة، والثقافة الشعبية عنصر أساسي في تشكيل مفهوم الجمال الذي أصبح تراثًا غير مادي مسكوتًا عنه، وأصبحت هذه الثقافة تقف معزولة في مواجهة الثقافة العالمية التي تفرض معايير موحدة، وتتآكل معها معايير الشعوب. والعيب الخلقي هو عيب طفيف من منظور طبي، لكن تقييمه الجمالي يخضع للأعراف الاجتماعية، وبالتالي يكون الجمال الاجتماعي يغلب القبح الطبي أحيانًا، وهي تؤكد على أن الجمال ليس موضوعيًا ومحايدًا خالصًا، بل مسألة نسبية تتأثر بعوامل كثيرة، وتتشكل من منظومة اجتماعية وثقافية تتغير باستمرار. كما أن الموضوع له جانب إنساني معاصر، نظرًا لفقدان الكثير من الشباب ثقتهم في جمالهم وعدم تصالحهم مع أجسادهم بسبب ضغط الجمال المعولم، مما يضطرهم للجوء للطب التجميلي واستخدام الفلاتر لإخفاء بعض العيوب والظهور المثالي المضلل. الجمال والبحث عن الذات الجمال وسيلة إلى غاية البحث عن الثقة بالذات والتقبل الاجتماعي، وأن مصدر الثقة يكمن عند كثير من الناس في نظرة المجتمع لهم. وبالتالي تكون معايير الجمال غير منضبطة، وتعتبر ظاهرة الجمال والتجمل في الشكل والصوت قديمة، يقول المتنبي: أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ويقول المتنبي أيضًا: حسن الحضارة مجلوبٍ بتطريةٍ وفي البداوة حسنٌ غير مجلوب وأشار الدميري (المتوفى عام 808ه/ 1405م) في «حياة الحيوان الكبرى» إلى خلطات عشبية يستخدمها النساء لجمال الصدر والسمنة. وما تزال ذات الاهتمامات تتكرر مع الأجيال، فهي سمة بشرية طبيعية. ولكن أحيانًا قد تكون بعض العيوب في بعض الأشخاص متسقة مع الوجه واللون، وتعطي مسحة جمال مختلفة، تميز من ظهر له هذا العيب عن غيره من الأشخاص الذين لديهم العيب نفسه بأن اتساق وجهه ولونه جعل لذلك العيب ميزة جمالية. وسوف أعرض في هذا المقال أبرز العيوب التي تحولت إلى عنصر جمال في بعض من ظهرت لديه. الغمازات: العيب الخلقي الجمالي الغمازات عبارة عن تغيرات طفيفة مغمورة في عضلات الوجه، وتظهر بوضوح مع الابتسامة، وتكون عادة في مقدم الخدين، كما تكون في أسفل الذقن، وهي من منظور طبي تعد عيبًا خلقيًا. والغمازات معروفة عند العرب، ولها مسميات، منها «النونة»، ومن عاداتهم أن يخفونها في خد الأطفال لتغطية جمالهم، بتدسيمها «والتدسيم السواد الذي يجعل على وجه الصبي كيلا تصيبه العين، وفي حديث عثمان، رضي الله عنه، أنه نظر إلى غلام مليح فقال: «دسموا نونته». وتسمى أيضًا الفحصة والذاقنة. ويلحظ من النصوص عدم التفريق بين الغمازة التي على الخد والتي تحت الذقن. يقول مازاراين متهمًا أصحاب الغمازات: «لاحظ أن لمعظم الكذابين غمازات تظهر في خدودهم عندما يضحكون». ورغم أن الصورة الذهنية للغمازات الآن إيجابية وتوحي بالاطمئنان لصاحبها، فقد تكون ملاحظة مازارين خاصة بمجتمع معين أو زمان محدد. حبة الخال: بين الوراثة والجاذبية تعرف حبة الخال بالشامة أيضًا، وتصنف بأنها أحد أشكال التصبغات الجلدية، وهي بقعة صغيرة سوداء تكون في أماكن مختلفة من الجلد، ولبروزها أسباب وراثية وطبية. دخلت حبة الخال في الحياة الاجتماعية وصارت متقبلة شعبيًا إذا كانت صغيرة وفي مكان مناسب من الوجه، ونتج حولها تراث شعري كبير، بوصفها من أشكال الجمال المميزة. ويوجد حبة خال عبارة عن لون، وحبة خال كبيرة وبارزة، وغالبًا ما تكون غير متقبلة جماليًا. ولكثرة التراث الأدبي عن حبة الخال، فقد ظهر كتاب «كشف الحال في وصف الخال» لخليل بن أيبك الصفدي (المتوفى عام 764ه)، وهو منجم لغوي وأدبي وجمالي، ربط فيه بين الدلال والتميز بالخال وموضعه من الجسد في الوجه والنحر والصدر، يبين الفروق الجمالية في كل موضع، وذكر أبيات الشعراء في ذلك، وأبرز من ذُكر أن له خالا من الرجال والنساء. وأشار شاعر إلى تفضيل الناس لحبة الخال وقارنها بمحبوبته: يحب الناس من في خده خال كيف بي وحبيبي كله خال زبيبة الوجه كل عيب خلقي خفيف جميل في النساء وقبيح في الرجال إلا زبيبة الوجه، فهي علامة جمال وزهد في الرجال وقبيحة في النساء، وترتفع هذه القيمة الجمالية في المجتمعات المتدينة. وتصنف زبيبة الوجه طبياً على أنها تجمع فطريات في منتصف الجبهة. وزبيبة الوجه: بقعة داكنة تشبه الكدمة تظهر على وسط الجبهة نتيجة كثرة الاحتكاك بالسجادة أو الأرض، وأصبحت علامة بارزة للصلاة الدائمة، وهي مؤشر شعبي على الصلاح والزهد، وتربط العامة بينها وبين الآية: «سيماهم في وجوههم من أثر السجود». وهو وهم شعبي أسهم في استخدام الزبيبة للاحتيال الديني، فقد ذكر المفسرون أن «سيماهم» ليست بالندب ولكنه صفرة الوجه والخشوع. ولعلها هي المقصودة بمصطلح الثعالبي «السجادة»، التي ذكر أنها أثر السجود على الجبهة، ويقال: للمصلي الذي أثر السجود في جبهته: بين عينيه مثل ركبة العنز. ولا يلزم ظهورها حتى وإن أكثر المصلي السجود، ذكر بهاء الدين الجندي (المتوفى عام 732ه/ 1332م) في ترجمة أبو الخطاب عمر بن سعيد: «ولقد رأيت الصفا الذي كان يصلي عليه فرأيت في موضع سجوده أثرًا ظاهرًا، فقلت لجماعة من أصحابه: هل كان في وجه الفقيه شيء؟ فقالوا: لا. وهذا أمر عظيم، وليس كما ترى في عباد زماننا يتعبد الإنسان منهم بعض التعبد فيصير في وجهه أثر السجود أسود». وهذا النص، رغم إيغاله في التصوف إلى درجة أن يظهر أثر السجود الخفيف على الصخرة وليس الجبهة، في محاولة تمجيد الزهد المعنوي على الظاهري، مقارنة بالمظاهر الخداعة للزبيبة المنتشرة في عصره. الحرقدة: تفاحة آدم تسمى عقدة الحنجرة: الحرقدة، وهي بروز غضروف الرقبة، وتبدأ في الظهور مع بلوغ الذكور، ويضخم معها الصوت. ويراها البعض علامة جمال في الرجل وقبح في المرأة، ويكون جمالها بحسب حجمها وبروزها غالبًا. وتكون تفاحة آدم غير جذابة في حالات بروزها المفرط وغير المتناسق مع حجم الوجه والرقبة، مما يجعلها كأنها عظم زائد، وإذا كانت نحيلة على رقبة طويلة، وإذا تسببت في مشكلات البلع والتنفس، وإذا كان جلد الرقبة مترهلًا وهي بارزة بشكل أوضح من الطبيعي. يلحظ ندرة رؤية تفاحة آدم بين الأجيال الجديدة وبالتالي ندرة فخامة الصوت وخشونته، وقد سألت بعض الأطباء وأرجعوا السبب إلى عوامل طبيعة أنواع من الغذاء المليئة بالمحسنات والهرمونات التي قد تؤثر على تطور الغضاريف، وتراكم الدهون حول الرقبة قد يخفي ظهورها، وانحناء الرأس لساعات طويلة يوميًا بسبب الجوال قد يؤثر على الغضروف بشكل طبيعي. فلج الأسنان: تحولات الجمال بين الأجيال فلجة الأسنان هي فراغ بسيط بين الثنايا، وهي ظاهرة طبيعية، لكنها تحمل دلالات ثقافية واجتماعية في المجتمع العربي باختلاف الزمكان، باعتبارها علامة تميز الهوية الذاتية بالاختلاف البسيط الذي يكون في الخلقة. وكان يعد من جماليات الفم في حقبة الستينات، وتغزل الشعراء بالنساء ذوات الفلجة، واعتبروها علامة جمالية مميزة. ومع صعود معايير الجمال العالمية وتأثرها بضغط الإعلام وطب الأسنان التجميلي الذي يشجع على إغلاق الفتحة بين الأسنان بسهولة، وتفضيل الأسنان البيضاء والمتراصة وظهور مصطلح «ابتسامة هوليود» مع المشاهير، بدأت الفلجة تتراجع جماليًا، وأصبحت تعد عيبًا خلقيًا، واضطر كثير من أصحاب الفلجة لتغطيتها. ثم برز في مطلع الألفية عودة قوية لفلج الأسنان بين ممثلات عالميات، مما نشط الطلب عليها من جديد في عيادات الأسنان، ثم بدأت تتراجع رغم وجودها. اعوجاج الفم: تميز العيب الخلقي يعرف طبيًا بشلل الوجه النصفي، وهو مرض نادر، إلا أنه متقبل شعبيًا إذا كان ميلان أحد طرفي الفم طفيفاً، بشكل لا يعوق صاحبه، أو ظهور ميل أحد جانبي الفم عند التحدث. ويسمى عند العرب الردة، «الردة: قبح في الوجه مع شيء من جمال، يقال: في وجهها ردة، أي إن ثمَّ ما يرد الطرف، أي يرجعه عنها». وهذا مؤشر على تقبل العرب للتفرد بالاختلاف البسيط إذا كان لا يعوق وظيفة العضو المصاب، وضرورة التقبل مع ضعف الإمكانات الطبية. «والردة: تقاعس في الذقن إذا كان في الوجه بعض القباحة، ويعتريه شيء من جمال». وهي تجمع بين ثنائية الجمال والعيب الخلقي إذا كان طبيعيًا، أو مؤقتًا ويمكن علاجه. يقال للمرأة إذا اعتراها شيء من جمال وفي وجهها شيء من قباحة: هي جميلة ولكن في وجهها بعض الردة. ولا يعتبر اعوجاج الفم من الجماليات، لسهولة التدخل الطبي بعلاجه وتكثيف المعاني الثقافية لعدم تقبله، مما يعكس تفاعلًا معقدًا بين الطب والثقافة والجمال. ختام يعكس هذا التحول في مفهوم الجمال والعيب الخلقي الكثير من التصورات الاجتماعية عن الجمال الطبيعي والجمال المعدل، مما خفض من التفاعل الشعبي معه، وتسبب في انخفاض كبير في الأشعار والأمثال التي تلتقط نوادر الاختلالات الجسدية الطبيعية وتضخم التباهي بها، ولا نكاد نقرأ قصيدة لشاعر يتغزل في الجمال المعدل طبيًا لمحبوبته. وقد برز مؤخرًا دعوات لتقبل الجمال الطبيعي بهدف تعزيز تنوع الجمال، وهي السمة الأساسية لتنوع ثقافات الشعوب. فالعيوب الخلقية الجميلة تكسر حدة قوالب الجمال النمطية، وتقدم تنوعًا طبيعيًا للجمال ومجالًا للتفرد، لتأكيد تغليب الجانب الإنساني.