في الجهاز المناعي لجسم الإنسان توجد خلايا مناعية تسمى (خلايا الذاكرة المناعية) وهي خلايا متخصصة لها القدرة على التذكر والتعرف بسرعة على الكائنات الممرضة والتي سبق وأن تعرَّض لها الجسم، فحين تعود تلك الكائنات تبدأ الاستجابة المناعية المناسبة والتي تكون أسرع وأقوى، لأن الخلايا تمكنت من تذكُرها، وبالتالي فإنها توفر حماية فعَّالة ضد العدوى المستقبلية، وهذا يشير إلى أن أجسادنا تتوخى الحذر، وتتذكر أماكن الإصابة، وتستطيع أيضًا تمييز مواضع الخطر، أما أرواحنا فغالبًا لا تجيد ذلك، فهي لا تملك أداة مماثلة لذلك الجهاز المناعي الذي يتذكر الفيروسات والميكروبات، هي لا تحارب الأوجاع قبل أن تغزوها، ولا تعتزل ما يؤذيها، فالخيبات حين تزور الروح، تبدو في كل مرة وكأنها المرة الأولى، وكأنها الوجع الأول، وكأنها الاحتراق الأول، لذلك نحن نمارس الأخطاء ذاتها، والأحلام ذاتها والطريقة ذاتها وإن اختلف الطريق، نحن نحاول التهام الحياة بينما هي التي التهمتنا في الكثير من الأوقات، نسقط ثم نحاول الوقوف، لنسقط مرةً أخرى، نتعرف على الخسارات بأشكالها المتعددة، وزواياها المختلفة، وصورها المحبطة ثم نعود إلى ممارسة الأمنيات على طرقاتٍ رخوة، الهزائم لا تجعلنا حذرين، بل تلقينا مجددًا في شَرَك الحياة، تجعلنا نواجه أحلامًا جديدة، وأوهامًا جديدة، وتدفعنا للبحث والتجديف والتنقيب، لا أعرف هل هذا هو الأمل بمعناه الآمن أم أنه الجشع البشري، أم أن تلك هي الطبيعة الإنسانية، أم أننا نعتقد بوجود مدينة أفلاطون الفاضلة؟ المدينة التخيلية التي لا تحمل سوى السعادة والسلام، أراقب المشهد وأجد أننا نبحث وهشاشة أحلامنا لا تمنعنا من مواصلة الطريق، فرغبتنا في المزيد من الحياة فاقت حذرنا، وتكرار الأخطاء لم يجدد مناعتنا، لست ضد الأحلام، ولا ضد العمل لأجلها، ولكن في الحقيقة أنا أَتعجب من تكرار الوجع، أتعجب من أن الآلام في كل مرة تحمل نفس الحجم والمسافة، وكأننا حديثو عهدٍ بالفشل والهزيمة، أتساءل دائمًا لماذا نحن لا نمتلك مناعة ضد الصدأ وضد الحزن؟ لماذا تحرقنا الأشياء في كل مرة وكأنها اللهيب الأول؟ لماذا لا تعلمنا التجارب اتخاذ الوسائل الوقائية نحو غزو الحياة؟ لماذا لا نتمكن من الاتساع فتخفت ندباتنا؟ لماذا نقع في فخ الأحلام المكسورة مرتين وثلاث وعشرًا؟ تساؤلات كثيرة أوقدتها خلايا الذاكرة الفيسولوجية، ونضح بها هذا المقال وربما هذا العالم أيضًا.