تعرفت على هذه الشخصية أوائل 1419ه، زرته بمنزله بالرياض في حي الريان، ويعد من أوائل من سكن هذا الحي، كنت أطالع بعض مؤلفاته في المكتبات التجارية في الأدب الشعبي، خاصةً كتابه (الشعر النبطي في وادي الفقي) الذي يعد رائداً، وكتابه الآخر (الصفوة فيما قيل في القهوة)، وغيرها من المؤلفات في الأدب العربي والتاريخ والشعر، إنه الأديب الكاتب والشاعر أحمد بن عبدالله الدامغ -رحمه الله- الذي مضى على رحيله 11 عاماً، وعندما قابلته في أول لقاء لي معه اكتشفت فيه الهدوء والسكينة والوقار ودماثة الخلق وطيب النفس والأريحية، فهو ليس من هؤلاء الذين يدعون العلم ويتباهى بثقافته وشهرته في الأواسط الأدبية، قليل الجدل والمراء، يستمع إليك بكل إنصات، حتى ولو خالفته الرأي، كان ذا أدب راقٍ في سلوكه وذو ذوق رفيع، إذا سألته تحدث بما يعلم ويعرف، وإلاّ قال: "لا أعلم"، ولفظة "لا أعلم" ليست قليلة في قاموسه، وهذا من ثقته بنفسه، وأن الإنسان مهما علم وقرأ ودرس فسوف يفوته الشيء الكثير، وفوق كل ذي علم عليم. تكررت زياراتي للدامغ، وإن كانت ليست كثيرة، خاصةً عندما انتقل إلى منزله الجديد بحي الياسمين، فقد زرته بهذا المنزل، وكان قد بدأ عليه المرض وكلّ بصره، بحيث أنه لا يستطيع القراءة، وقد خصص لمكتبته قسم كبير من الملاحق خارج المنزل واطلعني عليها، وأحياناً اذا لم تتيسر لي الزيارة اتصل عليه هاتفياً حينما يطرأ علي سؤال، وأحيانا يجيبني، وفي بعض الأحايين يقول: "لا أعلم"، والحقيقة كبر عندي وعلا مقامه حينما أسمعه يقول: "لا أعلم"، فهو لا يشرّق ولا يغرّب في الجواب، بل يقولها بكل طمأنينة. وأرسل لي الأستاذ الكريم منذر بن أحمد الدامغ، سيرة ذاتية مختصرة لحياة والده، وفيها: هو أحمد بن عبدالله بن فوزان الدامغ، وُلد عام 1353ه بروضة سدير، تعلم من والده -رحمه الله- مبادئ العلوم الدينية وشيئاً من مبادئ النحو، لكن شؤون الفلاحة فرضت عليه المشاركة مع والده وهو في سن مبكرة. قراءة متخصصة سافر أحمد الدامغ -رحمه الله- إلى الرياض وعمره 15 عاماً، بعد أن استأذن من والده، حيث يوجد له أقارب، اشتغل في الرياض أجيراً عند عدة بائعين ثم حمّالاً، كما اشتغل في حمل اللبن والطين، ثم عمل في إحدى شركات المطار، وحرص أن يعلم نفسه بنفسه، فلا يقع كتاب في يده إلاّ قرأه وفهمه، ثم عاد إلى روضة سدير بعد أربع سنوات أي في عام 1373ه، حيث انتظم في المدرسة قرابة عام، حصل خلاله على الشهادة الابتدائية عام 1374ه، بعدها في عام 1375ه عيّن مدرساً، فتطلب الأمر منه الحرص على تحصيل علم ينتفع به طلابه، فأصبح يقرأ قراءة متخصصة لها مساس بالمناهج التي تدرس، عندها وجد نفسه متأهلاً لدخول امتحان الكفاءة المتوسطة -نظام ثلاث سنوات- ونجح منها عام 1378ه، وكذلك الشأن بالنسبة للثانوية، استمر في حياته الوظيفية بالتدريس بمدينة الرياض، بعد ذلك استقال وعُيّن أميناً لمستودعات وزارة الزراعة عام 1386ه، انتقل من الزراعة الى وزارة التجارة عام 1389ه وترقى فيها الى أن وصل الى مدير الخدمات بالوزارة إلى أن تقاعد عام 1415ه. علم ومعرفة وأحمد الدامغ -رحمه الله- شخصية عصامية مثل أقرانه ومعظم جيله الذي عاش فيه على هذه الصفة هي العصامية والكفاح، فلم تكن الحياة ذات رفاهية وعيش رغيد، أقصد البدايات وما بعدها في مرحلة الستينات الهجري والسبعينات وما بعدها حتى سنوات الطفرة، حيث تغيرت الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فهو شخصية مخضرمة عاشت ما قبل النفط وما بعده ولو كتب مذكراته لكانت لطيفة ومفيدة، كان مولع بالكتاب منذ بواكير سنواته الأولى وحبب إليه العلم والمعرفة والقراءة، فكان يقتني الكتب لغرض القراءة والاطلاع، وعشق الكتاب طيلة سنواته، وكوّن مكتبة ضخمة شاهدتها كما ذكرت في مقدمة هذه السطور، وكانت مكتبة زاخرة بالمراجع الأدبية واللغوية ومليئة بالدواوين الشعرية على مختلف العصور، إضافةً إلى كتب الشعر الشعبي فهو شاعر شعبي وعاش في بيئة شعبية وسوف يؤلف في هذا الميدان الذي أحبه وتعلق به وأصبح من رواته. اختيار وانتقاء لقد غاص أحمد الدامغ -رحمه الله- في كتب الأدب، وقيّد ما أعجبه، وأصبحت لديه ملكة في الاختيار والانتقاء وصيد الفوائد الأدبية والشعرية والنتف واللطائف والفوائد، مثال ذلك كتابه (الأدب المثمن) الذي كان عبارة عن مقالات نشرها في صحيفة الجزيرة، وكذلك في كتابه (الأدب المرتب)، وهو ثلاث أجزاء، هو أديب تراثي يكتب ويسجل كل هذا في مكتبته بمنزله الذي لم يفارقها ولم تفارقه حتى رحل عن دنيانا، وأخبرني -رحمه الله- قائلاً: إنه أحياناً يخرج من وزارة التجارة ويذهب شطر المكتبة المركزية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في حي المربع بغرض الاطلاع والقراءة على بعض المراجع التي لا تتوفر في مكتبته، فهو دائم القراءة، معتكفاً في محراب الكتاب، يقرأ الساعات الطوال، وبالأخص عندما تقاعد، وبهذا تكونت لديه حصيلة ثقافية وخبرة معرفية أسهمت بشكل قوي في كتبة ومؤلفاته ومقالاته وتنوع الطرح التأليفي، وهذا ما نراه في عناوين كتبه التي وصلت 60 مؤلفاً. حراك أدبي وقال الباحث عمر المشاري في مقال له رثائي عن أحمد الدامغ -رحمه الله-: فقدت الساحة الأدبية أديباً من أدبائها، الذي سطع نجمه فيهم، وتبوأ مكانة مرموقة بين عارفيه، ومحبي الأدب ممن تعرفوا عليه، بكتبه ومقالاته التي ساهمت في الحراك الأدبي، ضمن كوكبة من الأدباء الذين ساهموا في ذلك، إذ كنت ألتقي بأديبنا أحياناً في بعض المناسبات، وفي مسجده الذي بجوار بيته، وفي جامع بلدة الداخلة، حيث إن له استراحة في الداخلة غرب الجامع، يأوي إليها إذا قدم إلى سدير، إن الأديب أحمد بن عبدالله الدامغ من جيل الأساتذة الذين لهم قصب السبق والريادة في جمع ما تناثر من الأدب العامي؛ لئلا يندثر، فألّف فيها كتباً، جمع فيها ما أمكنه منها، مما يخشى ضياعه، أو نسيانه مع مرور الزمن، ومنها كتابه المعروف (الشعر النبطي في وادي الفقي)، وهو أشبه بمجموع من الدواوين، لعدد من الشعراء، وقد لقي قبولاً واستحسانًا من الناس، خاصةً في بلدان وادي الفقي. مؤلفات وبحوث ولقد كانت لأحمد الدامغ -رحمه الله- همة في قراءة كتب الأدب، والغوص في دررها، فقيّد صيده منها بمؤلفات وبحوث ومقالات في الأدب بشقيه، نثراً، وشعراً، وكان مكثراً من التأليف، فمؤلفاته تقارب 60 كتاباً، وله كتب مخطوطة لم تطبع بعد، ومن الكتب التي ألفها فيما قرأته واطلعت عليه وما ذكر لي (روضة سدير في التاريخ)، (الشعر النبطي في وادي الفقي) -أربعة أجزاء-، (محسن الهزاني، حياته، وأدبه من خلال شعره)، (الألفيات) -مجلدان-، (الأدب المثمن) -16 جزءاً-، (الصفوة فيما قيل في القهوة) -ثلاثة مجلدات-، (عبير الأدب الشعبي في وادي سدير)، وغيرها من المؤلفات والتي اقترح على أبنائه -وفقهم الله- كما اقترح غيري ممن كتب عنه، أن تطبع كتبه التي لم تطبع بعد، وحبذا لو جمعت جميع مؤلفاته في مجموع واحد. ومما يذكر من محاسن أحمد الدامغ أنه بنى مسجداً بجوار بيته وأتم بناءه قبل أن يتم بناء بيته، وذلك قبل وفاته بعدة سنوات، وهذا إن دل فإنما يدل على حبه لفعل الخير، فبناء المساجد من أعمال البر التي لا تنقطع بالموت. هيّن ليّن وكأني بأحمد الدامغ -رحمه الله- يتمثل ببيت للشاعر أحمد شوقي: أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافياً إلاّ الكتابا مع أن الدامغ كان اجتماعياً ويحب الاجتماعات، فهو لم ينعزل عن الناس، بل كان له أصدقاء من أهالي بلدته ومن أسرته ومن الشعراء والرواة، وكانت له جلسة في منزله بحي الريان صباحية كل أسبوع يوم الثلاثاء، يكون فيها بعض من أصدقائه من الشعراء وبعض الأدباء، فهو صديق محبوب وليس منطوياً على الكتب، يألف ويؤلف، هيّن ليّن، سمح، نادر الغضب، لا يدخل في أي مشادات كلامية أو جدل عقيم أو ثرثرة أو لغو الكلام، وهبه الله الحكمة والتأني في الأمور وسعة الصدر مهما كان الذي أمامه منفعلاً في حديث، فهو حليم لا يمكن لاحد أن يستفزه بكلام أو يستثيره بحديث، يعفو ويسامح من أساء إليه، رحيم ذو قلب طاهر، وذو عاطفة جياشة ورقيقة. وجسّد هذه الأخلاق في شخصيتنا عبدالعزيز الخريف في كلماته الرثائية عن الدامغ قائلاً: أبو عبدالله رجل لطيف وقلبه رحيم حسن التعامل مع الكبير والصغير. قارئ للتراث وتميّز أحمد الدامغ -رحمه الله- بغزارة الإنتاج في التأليف، سواء بالأدب العربي، أو الأدب الشعبي، يؤلف من أجل المعرفة ونشر الكلمة الأدبية التراثية، قارئاً للتراث بعمق، مستخرجاً من مناجم الكتب ما هو مفيد للقارئ، ويضيف إليه، ولم يكن يهدف في هذه المؤلفات الربح المادي، بل العكس كان يتحمل تكاليف الطباعة، ثم بعد ذلك التوزيع التي تتولاه الشركات، وفي النهاية ما هي إلاّ مبالغ زهيدة لا تقارن بالجهد الذي بذله في تحبير هذه المؤلفات، خاصةً منها الميدانية مثل كتابه (شعراء وادي الفقي) الذي أخذ منه هذا الكتاب الوقت والمال والتعب واللقاء مع الرواة والشعراء الشيء الكثير، ومع هذا لم يدر عليه هذا المشروع أرباحاً مالية ذات قدر كبير، وكما قيل: «حرفة الوراقين لا تسمن ولا تغني من جوع»، وما دمنا نتحدث عن (الشعر النبطي في وادي الفقي)، فهذه الموسوعة هي من أشهر مؤلفاته الشعبية، ولولا تدوين الدامغ لكثير من وردت أسماءهم من الشعراء لضاع شعرهم وتراثهم، فهو ابتدأ بشعراء روضة سدير بداية من الشاعر المشهور رميزان التميمي حتى القرن الخامس عشر الهجري، وقد سألته عن هذه الكتاب فقال: إنني اصطحب معي جهاز التسجيل والتقي بالشعراء والرواة، وأجري معهم لقاءات في سدير وغيرها من المناطق، وطريقته هي أن يترجم للشاعر بترجمة قد تكون أحياناً فيها إسهاب، وأحياناً موجزة، ذاكراً القصائد والأشعار للشاعر ومناسبة القصيدة وبعض المواقف والقصص التي تتعلق بالشاعر، فهو بهذا الكتاب يعد رائداً فيه؛ لأنه أول من نشر أشعار هؤلاء الشعراء القدامى، أو الذين عاصرهم، ومن المؤلفات الشعبية في الشعر كذلك كتابه (النفائس والدرر من الشعر الشعبي الطيب الأثر)، وهذا ليس خاصاً بشعراء وادي الفقي أو سدير، بل لشعراء نجد وغيرهم، اختار من شعرهم الحكمة والنصيحة، ومن المؤلفات الطريفة الممتعة كتابه التحفة (أساطير من حكايات الجن وأشعارهم)، ولعل هذا التأليف من شخصيتنا لم يسبقه أحد، وهو كتاب صغير الحجم جمع فيه ما سمعه من الرواة والشعراء عن قصص وأخبار الجن من الشعر الشعبي. ومن مؤلفات الدامغ -رحمه الله- الطريفة (المستحب مما قيل في الضب)، وهو كتيب لطيف، وكان لهذا الكتاب قصة طريفة، ومن إنتاجه الأدبي كتابه عن الغنى والفقر والحظ مما قيل فيه من الشعر والنثر، ومن مؤلفاته كتاب (الصفوة مما قيل في القهوة)، حشد فيه كل ما قيل في القهوة من شعر فصيح وشعبي ونثر، وهو كتاب تراثي يدل على سعة اطلاع شخصيتنا وتتبعه للمعلومة وتوثيقها. قصيدة ومناسبة وعندما رزق أولاد أحمد الدامغ -رحمه الله- الثلاثة بذرية من الذكور أسمى كل واحد منهم أحمد على اسم جدّه، فقال في هذه المناسبة قصيدة من الفصحى، وهي كالتالي -نشرت في صحيفة الجزيرة-: حمداً وشكراً للذي أعطاني ثلاثة جميعهم أحفادي سموا باسمي كلهم فحمدا وما أنا إلاّ سمي الهادي وأحمد إن شئت يمسي فعلاً واسما إن أراد من ينادي لهذا عدّه النحاة مما لا ينصرف كزيد أو عمادي فالأحمدون أحفادي نجوم تلألأت فأنعشت فؤادي فأحمد بن عبدالله منهم كانت به بشراي بل اسعادي وأحمد بن عبدالعزيز نجل قد استمال لطفه ودادي والثالث الذي يغليه قلبي هو أحمد بن منذر الجوادي ثلاثة قد حمدوا فمالي أن لا أزيد الشكر في انشادي والله اسأله إنه كريم يزيد من أولادي في الأعدادي وأن يكون عونهم إذا ما هبوا إلى الحياة بالجهادي إلهي قوّي فيهم رجائي واجعلهم الأعضاد للأعضادي وأنشئهم على بر ودين حتى يكونوا خيرة العبادي وامنحهم الهي طول عمر واجعلهمو في جملة الروادي تعبير صادق وقد علّق د.عبدالعزيز الخويطر على هذه القصيدة في مقال له: جاري الأخ الأديب الشاعر أبو عبدالله أحمد بن عبدالله الدامغ يطل بين آن وآخر علينا على إحدى الصفحات، وما يأتي به عادة طريف، ويشد القارئ؛ لأنه يعبر تعبيراً صادقاً عما يعتلج في صدره، بطريقة طبيعية، لا انفعال فيها ولا تكلف، ويأتي بالسهل الممتنع، سهل لأننا كلنا نفكر فيه وممتنع لأن أحدنا لم يبادر ويمسك القلم ويسجل ما استطاع أبو عبدالله أن يقتنصه بقلمه الشيق، لقد أوحى اسم ثلاثة من أحفاده، كل منهم اسمه أحمد، بأبيات صب فيها شعوراً هو خليط من الأبوة الحانية والشعر الخفيف الطريف الجذاب، ودرس في النحو، ركزه على أحمد، وهو اسم يستحق أن يُوقف عنده، لأنه أحد اسمي الرسول -عليه الصلاة والسلام- الواردة في القرآن، ولأن اسم أحمد هو اسم الشاعر الأديب أحمد، ولأنه اسم يستحق أن يوقف عنده، فهو محتوى على الحمد بأفضل الصيغ خفيف النطق، سهل أن يُنسب أو ينتسب إليه، وقد جمع بين صيغة الاسم والفعل، وهذا كله جاء في الأبيات، وعصر فيها من فكره عن هذا الاسم الجميل المحمود الممتدح ما جاء مضيئاً، هنيئاً لمن اسمه اليوم أحمد أن دخل دائرة معارف أبي عبدالله الشعرية، وما دخلها فقد دخل التاريخ الحديث في الأسماء حفظه الله وأثابه، وأعانه ووفقه، وأرانا منه الكثير مما إذا رأيناه شدّنا وشغلنا عن غيره. نهاية الرحلة وبعد حياة حافلة بالأدب والشعر والإنتاج المعرفي والأدبي التراثي والعصامية في هذه الحياة، توفي أحمد بن عبدالله الدامغ في السابع من رجب لعام 1435ه، رحمه الله وغفر له وأسكنه في جنات النعيم، أشكر الفاضل طيب الخلق منذر بن أحمد الدامغ على تعاونه في دعمي بالمعلومات عن والده وتزويدي بالصور الشخصية لوالده. أحمد بن عبدالله الدامغ -رحمه الله- أحمد الدامغ في شبابه كتاب الشعر النبطي في وادي الفقي من أشهر مؤلفات الدامغ أساطير من حكايات الجن وأشعارهم من مؤلفاته الطريفة الممتعة إعداد- صلاح الزامل