صديقي الشعر.. ظِلُّ عمري الذي حرصتُ ما مضى مني على أن لا أسير به بين أشجار شائكة ليدمى.. ولا أقف به على شاطئ عتمة وأنا أعلم أنه يغرق بشبر ليل.. نعم أنت الشعر صديق العمر الذي استضْعَفْتُ لأجله قوَّتي.. فاستقوت به إنسانيتي.. ومضيت له به نحو مدن الحب ومنازل الطيبة وأسماء الأغنيات... لا أعرف كيف أشتاق التحدّث إليك كلّما تغرّبتُ فيك، أو حتى تغرّبتَ فيّ.. ولطالما آمنتُ منذ لقائنا الأول بأن اغترابنا عنوان سيرتنا، حيث جمعتنا غربتنا دائمًا لقصيدة أجمل وحكاية أنبل... أولم تقل لي ذات توهانٍ سابق: إن أجمل المدن ما يضيع فيها غريبان فيلجأ كل واحد فيهما لصاحبه؟! لجأت إليك زمنا يا صديقي، وعشتك وطنا أفتّش فيه عن مساحيق الجوهر الإنساني؛ لأطمر بها ما استطعت من تجاعيد هذا الزمن المشبوه بالانصراف عنك ... ما زلتُ كما عهدتَني أحياك كأنك فجري، حتى وأنا أشارف العمر المقارب لنهايتنا منك، وابتدائك بنا، لنا أو علينا... ما زلتُ يا صديقي ذلك الطفل الصباحي الذي تعدّ له أمه الطبق الفيروزي فيشاطره حبيبته، حيث تقدم له القهوة من بخور أنفاسها، والسكر من أصابعها... ما زلت يا صديقي كما عهدتني لا أتابع إلا ما أحب، ولا أنشغل إلا بما أرى.. ما زلت أتحدث باسمك مع حبيبتي عن أسماء الآه، وتواريخ أبنائك.. أقول لها بين الحين والحين.. هل سيكفينا الحب وحده لولا الشعر؟ وحين تجيب بضحكتها وانتباهتها.. ألوذ بها إليك فتكتبنا ذاكرة لزمنٍ آخر... ما زلتُ يا صديقي كما تعرفني لا تدفعني عزلتي إلا إليك، ولا تمنعني وحدتي اتكالي عليك.. أحياك كأنني أولد اليوم.. وأدرك أنك غدي حينما أموت ... ثم ماذا...؟ يسألني الملل بين حين وآخر.. ثم لا أجد له إجابة إلا أنني بِكَ أنا، وبدونك غيري... تسألني الأيام الأخيرة من الشهر عن إنفاق الشعر عليّ.. فأمرِّر ساعاتها بخلوتي معك... لا تكترث يا صديقي.. حتى وإن تعثّرت في بعض الخطوات أحيانا في طريقي إليك.. ما زلت ذلك الوفيّ لك حينما جعلتني ما أنا عليه، أحب سيرتي بك.. كما أحب انتماءك إليّ في أحاديث الأصدقاء.. سيقال الكثير عن الشعر والشعراء.. كثر فينا عاشوا الشعر تنظيرا حتى زهدوا فيه وفرغوا منه فرموه بحجارة إدراكهم له، أو حتى بورود احتمالهم به ما ليس فيه.. كثر اتكؤوا في موقفهم منه على ما كان عليه حين تجاوزه الزمن.. فهو عندهم وسيلة للتكسب والتملق في أكثر حالاته.. حتى وإن أقروا أول الأمر أنه وزارة إعلام قبيلتنا الأولى، وبالتالي طاروا بتلك الصورة القديمة للشاعر حينما كان الواعظ والمرشد والزعيم وذلك الذي يتحدث فننصت، وننصت لنروي عنه ما نشاء.. أقول طاروا بهذه الصورة النمطية وتشبثوا بها كأنما نكاية بالشعر حين يعجز أن يقوم بمهامه القديمة في هذا العصر ويغفلون كأنما تعمدا دور الشعر اليوم حينما «يتحور» جمالا ليكون ملجأ اللغة ومختبرها الجمالي الأكبر.. نعم قلت وسأقول دائما: إن الشاعر لم يعد ذلك الواعظ أو المرشد أو الزعيم، ولا حتى ذلك الذي شرع لنفسه التسول بحجة الإبداع.. ليس هذا ولا ذاك إنه ذلك الذي يتعاطى الحياة جمالا.. يلتقط رؤياه من حطام الظلال حوله، من رسالة مهجورة في بريد قديم، من عطر تسلل لسيارته ذات وقوف عند إشارة مرورية متوثبة للزحام، من يمامة قروية لجأت لردهة نافذته لتبني عشها فيها، وحين فتحها هاجرت وتركت ريشة للحنين في عش مهجور.. الشاعر اليوم ذلك الذي يقيم في مختبر روحه ليعيد صياغة الوجود جمالا.. حزنه أغنية ونواياه حلم، وذاكرته حنين، لا يقتات على شعره حتى حين يجوع لأجله، ولا يسعى لقيادة أحد حين تأخذه الطرقات إلى غربة لا تنتهي... وبعد يا صديقي لم يتبقّ والله في العمر متسع لغيرك.. فلا تسألني إلا عنك!