قيل الكثير عن الشعر والشعراء، كثرٌ فينا عاشوا الشعر تنظيرا حتى زهدوا فيه وفرغوا منه فرموه بحجارة إدراكهم له، أو حتى بورود احتمالهم به ما ليس فيه، كثر اتكؤوا في موقفهم منه على ما كان عليه حين تجاوزه الزمن، فهو عندهم وسيلة للتكسب والتملق في أكثر حالاته، حتى وإن أقروا أول الأمر أنه وزارة إعلام قبيلتنا الأولى، حامل تاريخنا ومنشئه أحيانًا، شهادة وجودية وحجّة خالدة يستدعيها الأديب والخطيب، الصادق والكاذب في كل الأزمنة والعصور، أقول طاروا بتلك الصورة القديمة للشاعر حينما كان الواعظ والمرشد والزعيم وذلك الذي يتحدث فننصت، وننصت لنروي عنه ما نشاء.. طاروا بالصورة النمطية وتشبّثوا بها كأنما نكاية بالشعر حين يعجز أن يقوم بمهامه القديمة في هذا العصر ويغفلون - كأنما تعمدا- دور الشعر اليوم حينما «يتحوّر» جمالا ليكون ملجأ اللغة ومختبرها الجمالي الأكبر. فلغةٌ كالعربيّة لا أرى اليوم لها نموّا أكثر من المجاز الذي يموت ليبعث من جديد أكثر تطوّرا، وهو من أهم مركّبات الشاعر وتكوينه نعم قلت وسأقول دائما: إن الشاعر لم يعد ذلك الواعظ أو المرشد أو الزعيم، ولا حتى ذلك الذي شرع لنفسه التسول بحجة الإبداع، ليس هذا ولا ذاك إنه الذي يتعاطى الحياة جمالا.. يلتقط رؤياه من حطام الظلال حوله، من رسالة مهجورة في بريد قديم، من عطر تسلّل لسيارته ذات وقوف عن إشارة مرورية متوثّبة للزحام، من يمامة قروية لجأت لردهة نافذته لتبني عشها فيها، وحين فتح تلك النافذة هاجرت وتركت ريشةً للحنين في عش مهجور، الشاعر اليوم هو ذلك الذي يقيم في مختبر روحه ليعيد صياغة الوجود جمالًا، حزنه أغنية ونواياه حلم، وذاكرته حنين، لا يقتات على شعره حتى حين يجوع لأجله، ولا يسعى لقيادة أحد حين تأخذه الطرقات إلى غربة لا تنتهي. فاصلة: العصافيرُ فوق الشجرْ والممرّ طويلٌ طويلٌ .. وظلّ الفراشات أيقظ ظنّ العصافير .. فانتفضتْ تنتظر! كلّ تاريخنا جملةٌ فعلُها الآن ماضٍ وفاعلُها شاعر مستتر..!