لا تمر كلمة مسرح على أذن المتخصص في علم الاجتماع، وخصوصاً الباحث في علم الاجتماع الثقافي مروراً عابراً، فالمسرح ليس خشبة وممثلاً وإضاءة وديكور. المسرح هو الحياة بكل تفاصيلها، وهو جزء من حياة استقطعها كاتب مبدع وممثل موهوب ومخرج واعٍ. عندما وضع عالم الاجتماع (إرفنج جوفمان) نظريته عن المسرح لم ينطلق من مكان صغير في عالم الوجود بل انطلق من الحياة بمن فيها وما فيها ليجمعها في بوتقة رؤية واحدة، ولتكون الحياة بأحداثها، ومشاعر ناسها، وبتقلبات مزاجها وبامتداد حضاراتها عبارة عن مختزلات متعددة يصور كل منها مسرح صغير في حيزه الزمكاني –زمان ومكان-، وكبير بقيمته الحضارية، ونحن بحاجة إلى أن نتوقف عند هذه المحطة؛ محطة القيمة الحضارية للمسرح، ونربطه بمفهوم الفعل الاجتماعي وكيف تشكل وطريقة تكونه وتطوره. فكل فعل اجتماعي له دوافعه، وله أهدافه، وله مكانه بين الأفعال الاجتماعية، وأي فعل اجتماعي له أصوله وجذوره، والمسرح فعل اجتماعي بدأ بأفعال فردية فرغ الإنسان فيها طاقاته وعبر عن حالاته المتعددة ومواقفه المتباينة وعن علاقته مع الحياة والوجود من حوله. قفز الإنسان تعبيراً عن فرح، وتكور تعبير عن خوف أو برد، ووقف في الفلاة وحيداً يلقي شعراً أو نثراً. أفعال فردية وتعبير وجداني تطور ليصبح تعبيراً اجتماعياً، ولتصبح أشكال الأفعال المختلفة يجسدها أشخاص لتقدم أمام جمع؛ هؤلاء أصبحوا ممثلين وأولئك صاروا جمهوراً ينتظر عرضاً يتفاعل معه فرح أو حزن أو تفكه أو تأمل في الكون والحياة وما بعد عالم الواقع، فالإنسان يحمل طاقات تستبد بالجسم إذا لم يطلقها في فضائها المناسب وفي وقتها الملائم، والإنسان كذلك معبأ بالأفكار التي تحتاج للخروج إلى الحياة ليتشارك فيها مع غيره. تنظم شكل الفعل الاجتماعي المسرحي، وأصبح للحكاية كاتب، وللمشهد ممثل، وهناك مكان أصبح اسمه مسرح بدأ يتطور في شكله ومقوماته الجمالية ومساحاته المتناسبة مع حجم الجمهور المتوقع؛ بناء على تجارب أصبحت تتوالى وتتابع. هذه باختصار هي قصة بداية المسرح من وجهة نظر تصورية ومن خلال مفهوم الفعل الاجتماعي. المسرح الذي بدأ يلتصق بالثقافة ليكون أحد عناصرها التي تشكل الحضارة؛ ذلك الاسم المحمل بدلالات التاريخ والقيمة الوجودية والمكانة الاجتماعية، ولينتظم المسرح ليقدم قيمة تبث روح الحياة وتعيد الوقوف أمام الذات وأمام الحياة بأحداثها وتداول أيامها. نشأ المسرح نشأة موازية لحياة الإنسان، فأصبح حاملاً لحضارته، والمكان الذي يختصر فيه حكاياته، ويبث فيه همومه، ويلقي على خشبته أحمال أفكاره وتطلعاته وتأملاته، وأصبحت الحضارات القديمة تعيش حياة بين مسرحين للحياة؛ مسرح الحياة الكبير، ومسرح الحياة الصغير الذي أخذ شكل الحضارة التي ينتسب إليها في مبانيه وتجهيزاته، واحتضن المحتوى الذي يعبر عن معارف ووجدان وسلوك تلك الحضارة التي ينتمي لها وتنتمي له. المسرح حديث عام يأخذنا إلى حديث خاص عن مسرح سعودي بدأ يأخذ مكانه ومكانته بعد إنشاء هيئة تعنى به وتسعى لتطويره، ووضعه في مكانه المناسب في وجدان الناس وأجنداتهم الحياتية، وقد نجحت بالفعل في أن تعيد ترتيب مكان المسرح في ذائقة الناس وما زلنا نرى ونراقب مجهودات متتالية جديرة بالإكبار من قبل هذه الهيئة الناشئة الحيوية؛ هيئة المسرح والفنون الأدائية.