"إننا لا نستطيع أن نرفض الحضارة حتى لو رغبنا في ذلك ولكن الشيء الوحيد الضروري والممكن أن نحطم الأسطورة التي تحيط بها". هناك خلط غريب بين الثقافة والحضارة، وفي منظور علي عزت بيجوفيتش أن الثقافة تبدأ بالتمهيد السماوي بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة. وستظل الثقافة تعنى بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها. فكل شيء في إطار الثقافة إما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان. وتتميز الثقافة بهذا اللغز وتستمر هكذا خلال الزمن في نضال مستمر لحل هذا اللغز. أما الحضارة فهي استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد والتبادل المادي بين الإنسان والطبيعة. هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. هنا لا نرى إنسانا مرتبكا في مشاكله الدينية أو مشكلة (هاملت) أو مشكلة (الأخوة كرامازوف)، إنما هو عضو المجتمع الغفل، وظيفته أن يتعامل مع سلع الطبيعة ويغير العالم بعمله وفقا لاحتياجاته. الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان أو تأثير الإنسان على نفسه. بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي. الثقافة معناها (الفن الذي يكون به الإنسان إنسانا). أما الحضارة فتعني (فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة). الثقافة هي الخلق المستمر للذات، أما الحضارة فهي التغيير المستمر للعالم. وهذا هو تضاد الإنسان والشيء، الإنسانية والشيئية. والحضارة هي استمرار للتقدم التقني لا الروحي. والتطور الدارويني استمرار للتقدم البيولوجي لا للتقدم الإنساني. تمثل الحضارة تطور القوى الكامنة التي وجدت في آبائنا الأوائل الذين كانوا أقل درجة من مراحل التطور. إنها استمرار للعناصر الآلية أي العناصر غير الواعية التي لا معنى لها في وجودنا. ولذا فإن الحضارة ليست في ذاتها خيرا ولا شرا، وعلى الإنسان أن يبني الحضارة تماما، كما أن عليه أن يتنفس ويأكل. إنها تعبير عن الضرورة وعن النقص في حريتنا. أما الثقافة فعلى العكس من ذلك : هي الشعور الأبدي بالاختيار والتعبير عن حرية الإنسان. وحامل الثقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع. ومعنى الثقافة : القوة الذاتية التي تكتسب بالتنشئة، أما الحضارة فهي قوة على الطبيعة عن طريق العلم. فالعلم والتكنولوجيا والمدن والدول كلها تنتمي إلى الحضارة. ووسائل الحضارة هي الفكر واللغة والكتابة. وكل من الثقافة والحضارة ينتمي أحدهما للآخر، كما ينتمي عالم السماء إلى هذا العالم الدنيوي، أحدهما دراما والآخر طوبيا. وتفترق الثقافة والحضارة من ناحية مصادرهما، فالحضارة تعلم أما الثقافة فتنور تحتاج الأولى إلى تعلم أما الثانية فتحتاج إلى تأمل. التأمل جهد جواني للتعرف على الذات وعلى مكان الإنسان في العالم، وهو نشاط جد مختلف عن التعلم وعن التعليم وجمع المعلومات عن الحقائق وعلاقاتها بعضها البعض. ويؤدي التأمل إلى الحكمة والكياسة والطمأنينة إلى نوع من التطهير الجواني. إنه تكريس النفس للأسرار والاستغراق في الذات للوصول إلى بعض الحقائق الدينية والأخلاقية والفنية. أما التعلم فيواجه الطبيعة لمعرفتها ولتغيير ظروف الوجود يطبق العلم والملاحظة والتحليل والتقسيم والتجريب والاختبار. بينما يعنى التأمل بالفهم الخالص بل إن الأفلاطونية الجديدة تزعم أنها طريقة للفهم فوق عقلانية. الملاحظة التأملية متحررة من الإرادة ومن الرغبة إنها ملاحظة لا تتصل بوظيفة أو مصلحة. والكثير من المشكلات والأزمات التي يعانيها إنسان هذا العصر وبالذات في البلدان المتقدمة ناتجة من غياب الثقافة بمفهومها الآنف الذكر. ويشير إلى هذه المسألة (بول فاليري) بقوله : "هناك أمل يحتضر في ثقافة أوروبية وفي معرفة لم تستطع أن تنقذ أي شيء وهناك علم مطعون حتى الموت في طموحاته الأخلاقية وقد دنسته تطبيقاته الوحشية والمثالية التي شقت طريقها يوما بين الصعاب نراها اليوم تتعذب أشد العذاب وهي تسأل عن أحلامها المحلقة وواقعة هجرتها الأوهام مضروبة مطحونة محملة بالجرائم والخطايا. يفقد الشكاكون شكهم ثم يجدونه ثم يفقدونه مرة أخرى. لقد نسوا كيف يستخدمون مهاراتهم العقلية". كما أن العدمية وفلسفة العبث هما ثمرة أكثر بلاد العالم ثراء وتقدما. هذه الفلسفة تتحدث عن عالم بلا منطق عن فرد منقسم على نفسه سيكولوجيا ومحطم عن عالم أصم أبكم صامت، إنها ليست على الإطلاق فلسفة سامة كما يزعم بعض الناس، هي في الحقيقة فلسفة عميقة قادرة على التنوير. إنها تعبير عن مقاومة الإنسان، عن عدم رضاه عن العالم الذي ينمو بعكس الصورة التي أرادها لنفسه، إنها تمرد على الحضارة ذات البعد الواحد. فالعدمية ليست إنكارا للألوهية، ولكنها احتجاج على غيابها. وكما هي عند (بكت) احتجاج على غياب الإنسان أو احتجاج على حقيقة أن الإنسان غير ممكن أو غير متحقق. ظاهرة الفن : "العالم يسعى إلى اكتشاف القوانين واستخدامها. أما العمل الفني فإنه يعكس النظام الكوني دون أن يستفسر عنه". ينتسب العلم والفن أحدهما للآخر كما ينتسب الكم إلى الكيف. وقد عرف (أوجست كونت) الرياضة وهي ملكة العلوم بأنها قياس غير مباشر للكميات. وعرف (ألبرتو جياكومتي) الفن بأنه البحث عن المستحيل. العلم والفن فيهما يكمن جوهر الاختلاف بين نيوتن داعية الكون الآلي وبين شكسبير الشاعر الذي يعرف كل شيء عن الإنسان. نيوتن وشكسبير وأينشتين ودستويفسكي يجسدون فكرتين كل واحدة منهما تنتظر في اتجاه معاكس أو يمثلون نوعين من المعرفة منفصلين كلية ومستقلين أحدهما عن الآخر. فلا يعتمد أحدهما على الآخر ولا يتبعه. فقضية المصير الإنساني وغربة الإنسان في الكون وهشاشته والموت والخلاص من هذه المعضلات كل ذلك لا يمكن أن يكون موضوع علم من العلوم في حين أن الفن - حتى ولو حاول - لا يمكنه أن يتغاضى عن هذه القضايا. الشعر هو معرفة الإنسان كما أن العلم هو معرفة الطبيعة. هذان النوعان من المعرفة متوازنان ومتزامنان مستقل كل واحد منهما عن الآخر. كما أن عالم كل منهما متواز، متزامن ومستقل. مدخل النوع الأول من المعرفة هو التفكير والتحليل والملاحظة وإجراء التجارب في عالم المادة وهي "جماع الأشياء والعمليات مرتبطة بعلاقات سببية". النوع الثاني فإنه ينظر في باطن الإنسان وفي زواياه الخفية وأسراره. هنا يتم لنا الفهم أو لعلنا على الأرجح نخمن فحسب من خلال الوجدان المستثار من خلال الحب والمعاناة. فالمعرفة هنا لا تكتسب بطريقة عقلانية علمية. وهذه الخصوصية الجوهرية للفن تنعكس في حقيقة أخرى متميزة وهي أنه لا يوجد في عملية الإبداع الفني مجال لفريق عمل. فكل عمل فني مرتبط على الدوام بشخصية الفنان. والعمل الفني من حيث هو إبداع من حيث هو صناعة إنسان هو ثمرة للروح، ومن ثم فإنه فعل لا يتجزأ. أما العلم فإن عمل الفريق ممكن، لأن موضوع العلم مؤلف من أجزاء وتفصيلات. لذلك فهو ملائم للتحليل والفصل والتقسيم. العلم جميعه منذ بدايته إلى اليوم هو في الغالب استمرارية آلية يأتي اللاحق فيكمل عمل السابق. لكن هذا مستحيل في الفن. فسقف كنيسة (سيكستين) كان لا يمكن رسمه بواسطة عدد من الفنانين رغم أن العمل فيه استغرق عمرا. إنما قام به فنان واحد وينطبق هذا أيضا على الشعر والموسيقى. إنها قضية شيء متفرد بسيط لا يتجزأ، قضية شيء لا يمكن تقسيمه والحفاظ على حياته في آن واحد. فالعلم مهما بلغ من العمق أو التعقيد لم يشعر بقصور اللغة كأداة للتعبير عن نفسه. أما الفن فبسبب خاصيته الروحية دائم البحث عن وسيلة أخرى للتعبير عن لغة إضافية، اللغة يد المخ، والمخ إنما هو جزء من مجموعنا يسمى جزءا من الكيان الفاني. ولقد أصبحت الكلمات والحروف أعظم أدوات العلم التي تساعد الإنسان في استمرارية خبرته العلمية. وتتطابق الكتابة مع اللغة، واللغة مع الفكر وكل ذلك من صياغة الذكاء. ولذلك فإن اللغة عاجزة عن التعبير عن حركة واحدة من حركات الروح. فلا يمكن ترجمة (هاملت) إلى لغة العلم أو تقليص هذه الدراما إلى مجموعة قضايا في علم النفس والأخلاق. وإن فشل المدخل التحليلي في هذا المجال لا بد أن نتعلم منه شيئا. ولكن السؤال الذي يطرح هو : ما هو العلم المادي للفن ؟. يجيب مؤلف الكتاب بقوله : تملك الثقافة الفن، وتملك الحضارة العلم أو بتعبير أدق علم الاجتماع. فعلم الاجتماع هو الانعكاس الأمين لروح الحضارة أو انعدام روحها. والاختلاف بين المدخل الفني ومدخل علم الاجتماع يعكس الانقسام الأساسي للعالم، كما يعكس حقيقة أن البحث فيهما يتجه في اتجاهين متضادين : الأول نحو الإنسان كشخصية فردية، والثاني نحو الإنسان كعضو في مجتمع. والفن لا يرى شعبا ولا جنسا بشريا، وإنما يرى إنسانا فردا إلى جانب إنسان فرد آخر في صف لا ينتهي من شخصيات محددة ووجوه مختلفة. حيث يقول الفنان أن الفرد لا يمكن جمعه أو تحويله إلى حالة متوسطة إلى إنسان عادي. فما معنى أن ترسم وجه إنسان ما لم تكن تريد أن تجعل في الإمكان التعرف عليه فردا مختلفا عن جميع الوجوه الأخرى ؟ يريد علم الاجتماع أن يكتشف العام والمشترك، أما الفن فيريد أن يكتشف الخاص والفردي. الإسلام - الوحدة ثنائية القطب : أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه المؤلف لتوضيح خاصية الثنائية المتوفرة في الإسلام. ويقول في هذا الصدد : الصلاة ليست مجرد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، وإنما هي أيضا انعكاس للطريقة التي يريد بها الإسلام تنظيم هذا العالم. فالصلاة تعلن أمرين : أولهما أنه يوجد هدفان إنسانيان أساسيان، وثانيهما أن هذين الهدفين - رغم انفصالهما منطقيا - يمكن توحيدهما في الحياة الإنسانية. حيث أنه لا صلاة بدون طهارة ولا جهود روحية بدون جهود مادية واجتماعية تصاحبها. إن الصلاة أكمل تصوير لما نطلق عليه "الوحدة ثنائية القطب" في الإسلام ونظرا لما في الصلاة من بساطة فإنها قد اختزلت هذه الخاصية إلى تعبير معنوي وأصبحت بذلك المعادلة أو الشفرة الإسلامية. ويطلب الإسلام من الإنسان أن يتحمل مسؤولياته كاملة، ولا يفرض على الناس مثالية الفقر والزهد والمعاناة، ولا يحرم على الإنسان تذوق ملح الأرض وماء المحيط المالح بل يفترض في الإنسان أن يحيا حياة كاملة مليئة. الحياة في الإسلام يحكمها عاملان متكاملان : أحدهما الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة، والثاني الكمال الأخلاقي أو (الخلق الدائم للذات). هذان العاملان يتعارضان ويطرد أحدهما الآخر في إطار المنطلق النظري فقط، ولكنهما يتآزران بطرق عديدة في حياتنا وأمام أعيننا. وهذه إمكانية منحت فقط للإنسان ومن خلالها يتم الحكم عليه ولكن كان الإنسان أكثر شيء جدلا. وبالتالي فإن الثنائية ليست فلسفة سامية وإنما هي نوع من الحياة الإنسانية السامية. فالشعر من حيث المبدأ مسألة قلبية إلا أن كبار الشعراء أمثال (هوميروس) و(الفردوسي) و(دانتي) و(شكسبير) و(جوته) قد جمعوا في شعرهم بين العقل والمشاعر وبين العلم والجمال. ولو أن الشعر يخص الفرد لا المجتمع إلا أن قصائد (هوميروس) ساعدت في تشكيل الأمة الإغريقية كما ساعدت قصائد (هويتر) الغاضبة على القضاء على العبودية في أمريكا. وينطوي العقاب على فكرة الثنائية أيضا، فالعقاب وإن كان إجراء قمعيا إلا أنه من الممكن أن يكون حافزا أخلاقيا قويا. فإذا كان العقاب عادلا كانت له قيمة تعليمية للمذنب ولغيره من الناس. فالخوف هنا بداية للأخلاق كما أن خوف الله بداية لحب الله. ولهذا فلا غرابة أن الجسم والنفس، القلب والعقل، العلم والدين، علم الطبيعة والفلسفة، تجتمع كلها عند نقطة واحدة تمثل قمة الحياة. وتتجلى هذه الثنائية أيضا في الطبيعة الإسلامية للقانون. إذا أن قوانين مجتمع الحقيقة هي تلك القوانين التي بجانب التهديد بالعقاب تلزم ضمير المواطنين أيضا. وإذا تحطمت هذه الثنائية يتلاشى القانون. فهو إما أن يتقلص إلى مصلحة السلطة السياسية، وإما أن يتسامى إلى فكرة مجردة أو دعوة أخلاقية. وفي كلا الحالين يتوقف عن أن يكون قانونا. وعلى هذا يمكن القول : إن الإسلام يتضمن رفضا واعيا للمسلمات الفلسفية والدينية أحادية الجانب، وينطوي على تسليم إرادي بمبدأ الثنائية. ومهما يكن الأمر، فإن ما رأيناه من تأرجح وانحرافات وتسويات قهرية إنما يمثل انتصارا للحياة والواقع الإنساني على جميع الأيدلوجيات القاصرة على جانب واحد، وهذا في حد ذاته يعد انتصارا للمفهوم الإسلامي.