الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    نهاية مشوار صالح الشهري في "خليجي 26"    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بدولة الكويت يزور الهيئة الوطنية للأمن السيبراني    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف إسرائيلي على حي الشجاعية وخان يونس    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اعتبر رواد مجلة "شعر" جيلين : المؤسسون واللاحقون . نذير العظمة : أنا أول من كتب … القصيدة المدورة
نشر في الحياة يوم 22 - 02 - 1993

تحدث الشاعر نذير العظمة 62 عاماً مراراً عن تجربته في تأسيس مجلة "شعر"، لكنه في هذا الحوار يطرق ابواباً جديدة عن المرحلة الراهنة لقصيدة المجددين الرواد، عن المسرح وحضور الصوت الآخر، وعن الاسطورة ومدى ضرورتها الفنية لتفجير علائق النص المعاصر.
"الوسط" التقت الشاعر نذير العظمة في الرياض حيث يمارس التدريس الجامعي، وهو كان استاذاً جامعياً في الولايات المتحدة بعدما ترك بيروت ملعب شبابه وشعره ودمشق مشهد طفولته وحضن الأهل.
بعد خمس مجموعات، تلت تجربة مجلة "شعر"، ماذا اضاف نذير العظمة الى تجربة القصيدة العربية الجديدة؟!
- يصفني النقاد بأنني رائد من رواد الشعر العربي المعاصر. وريادتي ليست ريادة زمنية، فلقد شاركت منذ اواخر الاربعينيات في ارساء قواعد الشكل الشعري الجديد، سواءً من ناحية الايقاع او المعجم الشعري او من ناحية الصورة، وفي ما بعد من ناحية الاسطورة والرمز.
شخصياً، اعتقد ان انجازي الاساسي الذي ساهمت فيه بتجديد الحركة الشعرية يكمن في القصيدة المدورة. لقد استطعت من خلال هذه القصيدة ان اطور الجملة الشعرية، فعلى الرغم من اننا تطورنا من الايقاع القديم المتناسق الى الايقاع المتفاوت الا ان الجملة الشعرية ظلت مرتبطة بالركام الشعري الموروث في الذاكرة. لذلك لم تتغير جملتنا الشعرية دينامياً. صحيح اننا طرزناه بالتوظيف الرمزي او الاسطوري تضميناً واشارة وتشبيهاً، لكن الجملة الشعرية ظلت مقيدة، وتحريرها لم يأت الا عن طريق التدوير، الذي يمنح للمضامين اداءً اكثر رحابة وعمقاً، وبالتالي، من الممكن الخروج الى اشكال اكثر تنوعاً وحيوية "وحركة تتناسب مع الايقاع الحديث الذي تغيّر جملة وتفصيلاً عن الايقاعات القديمة.
اذن، فانجازك التجديدي ينطلق من القصيدة المدورة؟!
- لا، لقد فككت في أواخر الخمسينيات بحر التقارب. وخلافاً لجيلي الشعري، حاولت ان اشكل من اللغة اليومية شعراً، وهذا جانب مهم جداً في تجربتي. لأنني لم اعتمد على المعجم الشعري المحفوظ، بل على المعجم المنطوق عبر الكلام اليومي. هاتان الناحيتان اعتبرهما اضافتين مبكرتين مني لتجربة الشعر الحديث. فمن خلالهما قمت بارساء لغة شعرية ليست مترفعة، وانما تنبثق من صلب المعاناة اليومية.
مساهمات رواد "شعر"
وكيف ترى مساهمات واضافات رواد مجلة "شعر" كأدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا؟!
- يجب ان تعرف ان هناك جيلين لمجلة "شعر": جيل المؤسسين ثم الجيل التالي الذي شارك بعد اربع سنوات. يوسف الخال، ادونيس، نذير العظمة، وخليل حاوي الذي تركنا في السنة الاولى، اتوا للحركة ناضجين. قدمت انا بعد ذلك محمد الماغوط ثم انضم الينا انسي الحاج الذي لم يكن يكتب الشعر بل النقد، وشوقي ابي شقرا الذي كان يكتب القصيدة الفولكلورية اذا صحت هذه التسمية، وكلاهما كان متأثراً بالينابيع الفرنسية ولا سيما السوريالية بشكل خاص.
ولكل من هؤلاء تجربته وتكوينه النفسي والفني. وفي تمازج هذه الشخصيات نتجت ثماراً عجيبة، أصلت ودعمت ملامح جديدة كانت بوادرها موجودة منذ حركة "ابولو" لكنها اخذت شكلها او صيغتها الخاصة ضمن حركات شعرية اخرى، لا سيما في العراق وسورية ولبنان.
جاءت مجلة "شعر" لتكرس حداثة الشعر العربي وتجاهر بالحداثة على اساس حرية الابداع. فكان لكل منا حريته في اختيار النموذج الذي كان يعبر عن ابداعه، وكان لكل منا انتماؤه في الابداع، وان اختفلت مواقفنا من التراث، فبعضنا رفضه والآخر استلهمه واستوعبه وهضمه وتمثله للانبثاق منه وهذا كان موقفي، فالتراث لا يتدخل في لحظة الابداع، انما يترسب في شخصية الكاتب المبدع.
ألا ترى ان هناك تحولاً في تجربة ادونيس الاخيرة، والتي يعبر من خلالها بلغة المعاش اليومي بايقاع التفاصيل الصغيرة التي تصل الى درجة الغنائية؟!
- دخل ادونيس في المرحلة الاخيرة في تجربة ما يسمى "الكتابة". لم يعد ادونيس في المرحلة الاخيرة من تطوره الفني، يطمئن التسميات في ما يتعلق بأجناس الابداع نثراً او شعراً. لذلك اتجه الى مزج الاجناس، او ما يسمى بالكتابة او الابداع، فحينما يكتب فهو يبدع من دون ان يتخذ شكلاً مرجعياً. ان استجابة الشاعر لمعاناته اليومية هي التي تحدد الشكل.
ومن المبادئ التي اتفقنا عليها في المرحلة التأسيسية لمجلة "شعر" ان نؤكد على دور المعاناة الانسانية وعلى اهمية الرؤية. فاذا توفرت المعاناة والرؤية، فان الشكل لا محالة كائن.
اذن، انت تقف مع الشكل الحالي لتجربة ادونيس؟!
- طبعاً. لاننا كلنا تطورنا في هذا الاتجاه. انا من اوائل الذين مزجوا اشكال القصيدة، سواء الشكل المدور او الموحد او الحر او المنثور، فلم لا تتناغم كل الاشكال الشعرية في عمل ادبي واحد لتؤدي رؤية شعرية واحدة؟!
أنا معك، ان ليس هناك ما يمنع ذلك، ومن هنا نجد ان لتجربة ادونيس او انسي الحاج حضوراً هائلاً لدى الجيل الجديد للحداثة الشعرية... هل هي سلطة نص ادونيس او انسي ام سلطة موقعها الثقافي داخل الحركة نفسها؟! هل ادونيس مثلاً ديكتاتور شعري؟!
- اذا اعتقدنا ان هنالك تأثيراً كبيراً لادونيس، فلا اعتقد ان شاعراً تأثر به الى درجة اصبح بارزاً او مهماً مثله. هناك مقلدون لهذا الشاعر او ذاك. فالشعر باشكاله الحديثة مغر للشباب لا سيما في استلهام الحلم او الحدس والبعد من منطق الذاكرة ومنطق التراث والنص المكتوب سلفاً. اعتقد ان اتجاه الشعر الحديث، وليس اتجاه شاعر بعينه، يعتمد على ابتكار المبدع للنص، لا ان يعيد نصاً سابقاً. فنموذج الابداع في هذا الاتجاه مغر، كما سبق واشرت... والتقليد الذي المحت اليه ليس التقليد الحرفي، لكن، هناك نماذج شعرية لها شرعية وجودية. الاجيال التالية تتلمس شرعيتها المبدعة من خلال هذه الشرعية الموجودة. بعضهم يوفق في اكتساب شرعيته وبعضهم يبقى في اطار نموذجه الخاص... والمطلوب من الاجيال الجديدة ان تتجاوز الشرعيات الابداعية القائمة الى شرعيات جديدة.
موقع الشعراء الشبان
ألا تحضرك اصوات جديدة امتلكت شرعيتها الخاصة؟!
- بعد تجربة مجلة "شعر" ظهر بعض الاصوات في سورية والعراق ومصر والمغرب والمملكة العربية السعودية. هذه الاصوات متميزة ومبدعة، لكنها لم تقل كلمتها الابداعية كاملة بعد. وهناك اصوات ظلت اسيرة لطروحات مجلة "شعر". ومن هنا يأتي حضور "شعر" الدائم في الاجيال الشعرية التي تلتها، لا "لانها اكتشفت اميركا"، بل لانها كرست حركات التجديد التي ظهرت عند العرب جميعاً، واخذت منها ما ينسجم مع حياتنا الحديثة وابرزتها كقضايا ابداعية مهمة. ولما جاءت الاجيال اللاحقة، اتخذت من هذا التكريس وسيلة للتعبير عن ابداعاتها. اظن انه قد حان الوقت لنتجاوز هذا التكريس.
تعلمنا من تجربتنا ان ندافع عن حرية اختيار الشكل. فالاجيال الرائدة التي سبقتنا كانت تؤكد ان الشكل "جاهز" والنموذج "موجود" وانه يجب ان نحاكي هذا النموذج.
لقد قلنا كلمتنا. قلنا: لا. يجب ان نتجاوز هذا النموذج، ان نكسره باتجاه نموذج جديد ينسجم مع معاناتنا الحاضرة.
الحاضر اهم من الماضي والانسان اهم من غيره.. شاعر اليوم له الحق، مثل شاعر الامس في ان يختار شكله وشكل ابداعه.
الشعر كفن قائم على الانتماء والتجاوز.الانتماء الى الحضارة والارض والتاريخ والتراث والشعب وتجاوز هذا الانتماء الى تأكيد الابداع وتأكيد شخصية الانسان الفاعل في هذا التراث وهذه الارض وفي هذا التاريخ.
أنت تتحدث عن تيار مجلة "شعر" وكأنه من دون اخطاء ولا يستطيع احد الاتيان بمثله.. هناك تجارب بعد تجربة مجلة "شعر" قدمت الكثير من الطروحات والانجازات الابداعية المهمة. هل تتفق معي في هذا؟
- كتيارات، ليس هناك تيارات منظمة وواضحة، هناك تجارب فردية مميزة، لكن لم تنشأ حركة شعرية مثل حركة مجلة "شعر" حتى الآن، واتمنى ان يحدث ذلك.
هل للمناخ العام دور في غياب هذه الحركات؟
- أجل هذا المناخ ساعد في بزوغ مجلة "شعر" كما ساعد في ظهور مجلة "ابولو". واعتقد انه لو توفرت ظروف تاريخية مشابهة، فقد تنشأ حركات شعرية منظمة كحركة "شعر" او "ابولو".
الايقاع الشعري والمجتمع
وفي هذا المناخ، كيف تغيّر مجرى القصيدة العمودية؟
- اعتقد ان شيئاً لم يغير مجرى القصيدة العمودية. هناك مفهوم القصيدة، كجنس فني، وهو مجرى تصب فيه روافد الابداعات على مر العصور. القصيدة العربية ليست شكلاً واحداً وليست عاقراً. انها ولادة، ومن صلب هذه القصيدة انبثقت القصيدة الحرة والقصيدة المدورة وقصيدة النثر والقائمة على موسيقى كيفية وليست كمية.
لا شيء يغير الآخر او يلغيه، انما يتنامى معه: ينتمي اليه ويتجاوزه. حوارنا مع الموروث الشعري التقليدي هو الذي اوصلنا الى موقف شعر التفعيلة.
المسألة تتعلق بالزمن وبالحالة، فقد يتلاءم هذا الشكل مع هذه الحالة وهذا الزمن دون الشكل الآخر. وفي النهاية يظل الموضوع متعلقاً بأشكال مختلفة تصب في مجرى واحد.
وفي الاطار التاريخي لهذا التغيير، كيف يمكن حفظ الادوار للاشخاص الذين ساهموا في المبادرة بكتابة قصيدة التفعيلة او القصيدة المدورة؟!
- من المعروف ان تجربة الشعر الحر بدأت مبكراً، لان الايقاعات العربية ايقاعات حسابية او رياضية والتعامل معها يعد تعاملاً موسيقياً علمياً فنياً. ويمكن لاي جيل ان يتعامل مع هذه الايقاعات بمنطق الانطلاق من صلبها الى اوزان جديدة. فحركة "ابولو" حاولت ان تمزج بين الموشح وبين التفعيلة منذ 1932 - 1933م، الشعراء الرومانسيون العرب حاولوا التجريب في الشعر المرسل الموزون بلا قافية كما حاولوا في الشعر المنثور الذي يعود تاريخه الى مطالع القرن، حين نشر امين الريحاني عام 1905م قصيدة "الحياة والموت" في مجلة "الهلال".
الاشكال الشعرية لا تولد من فراغ وانما تولد تلبية لتغيّر ايقاعات الحياة. يأتي الشعراء ليعبروا عن هذا التغير بأشكالهم الفنية. قد يزرع شاعر ما بذرة في مطلع القرن ويأتي شاعر آخر بعد عشر سنوات فينمي هذه البذرة الى شجرة تامة النضج.
عدنا الى البحور الثمانية، نصف المركبة والصافية، واخذنا تفعيلاتها، ثم اعدنا توزيعها في بحور جديدة هي البحور المنطلقة، هكذا يسميها علي احمد باكثير وبدر شاكر السياب وانا، ترجمة لمصطلح Running Blank Verse وهو الذي عاد باكثير اليه عندما لم يوفق في ترجمة مسرحية روميو وجولييت لوليام شكسبير بطريقة احمد شوقي، في حين وفق كثيراً عندما ترجمها بمفهوم الشعر المرسل المنطلق. وجاء بعده شعراء ومسرحيون استفادوا من هذه الطريقة وطوروها، ومن هنا انطلقت حركة الشعر الحر وحركة المسرح الحديث.
الا تعتقد ان البحور الطويلة للشعر كانت مرتبطة باحساس ابداعي جماعي، وانه بمجرد انحسار هذه الجماعية، اتجه الشعر الى البحور القصيرة في قصائد التفعيلة، ثم الى قصيدة النثر؟
- اذا عدنا الى حياة القبيلة او الى الحركات الاجتماعية اثناء ظروف الاستعمار، نجد ان الابداع يستغل البحور الموحدة. والشعر المنبري في جملته قائم على القصيدة الموحدة، موحدة الوزن والقافية. هنا الحياة الجماعية فاعلة عبر التكتلات والحركات الجماعية، لذلك فالبحور الموحدة هي التي تلبي هذا الايقاع الجماعي. اما البحور القصيرة فتناسب التجارب الذاتية التي يريد الشاعر ان يهمس بها لنفسه او للآخر. وهنا نلاحظ ان الايقاعات المتوثبة او السريعة تفرض ذاتها على تجربة الشاعر.
اما الخروج من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر، فله شأن آخر. فالشاعر يخرج من ذاته ليحاول الاستجابة الى التطورات الهائلة في المضمون الشعري والفكري والفلسفي والعلمي والذي يشكل ركاماً لا بد للشاعر ان يتعامل معه شعرياً. فالشعر لا يصوغ الذات والوجدان فقط وانما يصوغ الحياة والوجود والتاريخ.
في نشأة الشعر العربي، كان الوجدان هو العامل المهم. لذلك كان الشاعر يصوغ المادة الوجدانية. في ما بعد جاءت حياة عامة لتضيف الى المادة الوجدانية وقائع وصراعات وحروباً، مما جعل الشاعر يخرج من صَدَفَة الذات ليحاول ان يصوغ الوجود شعراً وأن يتأمل في الحياة والموت والمصير وأن يطعم الشعر بالموقف الفلسفي والتاريخي.
إن ملاحم مثل الالياذة وجلجامش هي صياغة شعرية للتاريخ، كانت لدى الشاعر فيها شهوة ابداعية لاستيعاب الوجود بكل نواحيه… وهذه الشهوة هي المبرر الحقيقي في نظري لنشأة قصيدة النثر.
ألم تكن قصيدة التفعيلة تستوعب هذه الشهوة؟!
- اعتقد ان لكل شكل ظروفه المواتية، وليس لدى الشاعر الخيار. انا كتبت القصيدة الموحدة والقصيدة المدورة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. حين تسألني لماذا نختار شكلاً دون آخر، فانني لن اجيبك بشكل مطلق، لأنني لم اتأمل هذه النقطة.
أليس من الممكن ان تتطور قصيدة النثر لتستوعب الاشكال الشعرية الأخرى كالشكل الملحمي، فيعود النثر مرة اخرى ليكون صوتاً جماعياً؟!
- في الشعر الفرنسي والانكليزي، حاول بعض الشعراء الخروج من الموسيقى الكمية او التفعيلة الى الموسيقى الكيفية وهي موسيقى المقطع اللغوي: والت ويتمان ظل يشتغل طيلة حياته على ديوان "اوراق العشب"، الذي اعتبره النقاد، رغم غنائيته ومنطلقاته الذاتية، ملحمة شعرية جديدة تتناسب مع القارة الاميركية وروحها المتوثبة.
كما حاول الشاعر الفرنسي سان جون بيرس ان يزاوج الايقاع الشعري الاسكندري القديم الى ما يسمى بقصيدة النثر.
انا لا استطيع ان اتكهن بالمستقبل، فالاشكال كلها مشروعة، ومن الممكن ان تكون غنائية او مسرحية او ملحمية. وهذا يتوقف على المبدع الذي يتجاوز الحدود ليصل الى الابداع من خلال ادوات مختلفة.
مسرحة الشعر
تتميز قصائدك بحضور قوي للصوت الآخر. أهي محاولة منك للخروج بالشعر الى المسرح؟!
- للآخر حضور قوي في شعري… هذا صحيح. وذلك لأني لست منطوياً على نفسي. فتجربتي الابداعية قائمة على التفاعل مع الآخر. والمعاناة المعاشة هي اساس الشعر او رحم الشعر. والمعاناة الوجودية لا يمكن ان تكون معاناة الشاعر مع نفسه، بل مع مجتمعه وحضارته وتاريخه ومصيره ووجوده. لذلك، فان للآخر وجوداً اساسياً في شعري.
من هنا خرجت خروجاً واضحاً الى المسرح الشعري والمسرح النثري، لأن المسرح يعطيني حرية بروز الآخر بشكل فني موضوعي على مسرح المخيلة ومسرح الوجود في آن. كما يتيح لي حرية اكبر في رسم وابتكار الشخصية الانسانية. أن اتفاعل معها في ظل تنويع وتحرر من الصوت الواحد في القصيدة، ان اتحرر ايضاً من الايقاع الواحد الى ايقاعات متشابكة، ان اخرج من القصيدة الغنائية الى المسرح الشعري.
ولكنك في اغلب مسرحياتك الشعرية تستلهم التراث ولا توظف الواقع المعاش… هل هذا هو ما سميته دراما "الاقنعة"؟!
- لقد كتبت ثلاث مسرحيات شعرية: "ابن الارض" وظفت فيها صراع الانسان من اجل الارض والحب… "جراح من فلسطين" تكشف احداث النكبة. في المسرحية الثالثة انتقلت من استلهام المجتمع والوطن الى استلهام الانسان والمصير. ففي مسرحية "جسر الموتى"، لجأت الى القناع الفولكلوري لكي اعبر عن الحياة والموت والاضطهاد والصلب. ثم كتبت في المهجر "سيزيف الاندلسي" لازاوج بين الاسطورة والتاريخ، واتخذت من قرطبة رمزاً للمدن العربية، ومن ابن زيدون رمزاً لكل من تتمحور حياتهم حول النفي والحب والموت والحرية.
كان ابن زيدون قناعاً لي في هذا العمل، انا الذي تمحورت حياتي ايضاً حول النفي والحب والموت والحرية، واعتبرتها موضوعي الأثير.
وعبر هذا العمل، الذي أخرج على خشبة المسرح مرة في الرباط لمناسبة مهرجان ابن زيدون الالفي، ومرة في دمشق، اثبت انه من الممكن ان نصنع دراما عربية باللغة العربية الفصحى.
"طائر السمرمر" هي المسرحية الثانية التي استلهمت فيها المعادل الفولكلوري لطائر الفنيق او العنقاء. استوحيت هذا العمل من نضال الشعب اللبناني الذي يدخل في الرماد ويخرج من الرماد الى النار بكينونة جديدة. وهذا قناع للانسان في صراعه من اجل المصير والوجود.
كتبت بعد ذلك مسرحية "اوروك تبحث عن جلجامش". اوروك هي المدينة العربية كقرطبة، كدمشق، كقرطاج تبحث عن البطل الذي ينقذها ويحيها ويخرجها من رمادها الى نار الحياة.
ألم يستنفد المسرح الشعري اغراضه بعد؟!
- في الغرب، كما هو حاصل هنا، هناك خروج من صيغة الشعر الكلاسيكي الى ما يسمى بالشعر الحديث، لا سيما عند تي. اس. اليوت الذي كتب اربع او خمس مسرحيات.
أسلوب شوقي او راسين او كورني او حتى شكسبير قد يكون صالحاً في ظروف نادرة جداً، هذا اذا توفر وسط اجتماعي ذو موروث ثقافي معين.
ان التطور الحضاري العالمي يفرض صيغاً حديثة شعرية او نثرية. وهناك اكثر من عشرين مسرحية شعرية حديثة وتكاد تكون اكثر عدداً من تلك التي صيغت في الشعر المسرحي الكلاسيكي، بدءاً من "باكثير" مروراً بعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور ومعين بسيسو وأنا.
صحيح ان المسرح النثري يمنح حرية اكبر، لكن المسرح في الاصل ما هو الا ملكية للشعر، جاء النثر ليستخلصه من الشعر، وبعد ذلك امتزج الشعر بالنثر في لغة المسرح الحديث لا سيما في مسرح اللامعقول الذي يعوّل على الحلم والحدس.
هناك على ما يبدو تحول عام للأجناس غير الغنائية كالملحمة والمسرحية والقصة التي كانت من ملكية الشعر، فانتقلت وأصبحت من ملكية النثر وبالتالي امتزجت أدواتها بالشعر بشكل أفضل.
عن المسرح والتجريب
وهل تعتقد أن التجريب المسرحي سيخلق شكلاً ذا هوية مسرحية محددة، ام أن المسرح يعتمد على نسف الأشكال أصلاً؟
- الشاعر والكاتب المسرحي والفنان بشكل عام ما هو إلا مبدع حرفي. والابداع ينطلق من المعاناة، وهي التي تحدد الشكل.
الفنان باعتباره مبدعاً حرفياً يعاني من مشكلة البحث عن الأشكال لابداعه وتجربته. لذلك من المشروعية بمكان ان يجرب وأن يبتكر أشكالاً من أجل الاشكال، حتى يتسنى له أن يعبىء مضمونه الوجودي والحياتي، ضمن هذه الاشكال المكتشفة.
لماذا يجرّب الفنان النحات؟! هل هو يلهو؟! أم انه يحاول أن يعثر على صيغ فنية تستوعب تجربته الوجودية؟
وكيف ترى تجربة المخرج المسرحي المغربي الطيب الصديقي في هذا الصدد؟
- منذ الستينيات، تشكل وعي كبير باتجاه التعبير عن الهوية الحضارية. لقد ظللنا نطرق الصيغ المسرحية على السندان الاغريقي الأوروبي لمئة وخمسين سنة. وبعد محاولات التحويل المسرحي والترجمة وابتكار الأشكال والمحاكاة، جربنا كل الأشكال التي يمكن أن تحررنا من الصيغة الموروثة غربياً. وليس مستحيلاً أن يجتمع الشتيتان، التراث والابداع. وهذا ما حدث مع الطيب الصديقي في مسرحية بديع الزمان الهذاني، الذي انتقى فيها الطيب الصديقي المقامات ذات الأبعاد الاجتماعية والتي تمتلك حواراً وشخصيات متنوعة، فصاغها في شكل لوحات مسرحية.
وما يقال عن الطيب الصديقي من الممكن أن يقال عن قاسم محمد في العراق، وروجيه عساف في لبنان، وعز الدين المدني في تونس، وسعدالله ونوس في سورية.
اتجهت محاولات هؤلاء الى الغوص في الموروث، لا تقليده أو محاكاته، انما عجنه وخبزه على نار جديدة.. هذا هو التوجه الذي سينتصر في النهاية. أنت لا تستطيع أن تغرّب نفسك عن التراث ولا عن الواقع الانساني، انما تأخذ من كليهما ما يساعد تجربتك الوجودية على اتخاذ شكلها وولادتها.
وماذا عن مسرح دريد لحام - محمد الماغوط؟! أيمكن وضعهما في خانة التجارب الباحثة عن خصوصيتها؟
- أعتقد أن مسرح دريد يعتمد، في كل مستوياته: المؤلف والمخرج والممثل، على الجمهور.. الجمهور هو الذي يلعب الدور الأساسي. لذلك ينقلب كثير من مواطن التأليف الى نوع من التلفيق بحثاً عن رضا الجمهور، الذي يصبح حاضراً في النص بشكل صارخ. هذا لا يُنقص من محاولات دريد والماغوط التي وجدت اقبالاً عاماً في المنطقة العربية، لكنها تختلف عما انجزه الطيب الصديقي أو روجيه عساف أو عز الدين المدني أو سعدالله ونوس أو قاسم محمد. ويمكن القول أن تجربة دريد - الماغوط تقع في منطقة وسطى بين المسرح المحض والمسرح الترفيهي.
توظيف الاسطورة
لقد قادتنا الأقنعة الى المسرح، فاسمح لي أن أعيدك من خلالها الى الاسطورة التي دخلت في مناخاتها كثيراً حتى في أحدث كتبك والذي تضمن دراسات سيميولوجية عن العنقاء. كيف تفسر هذه العلاقة الحميمية مع الاسطورة؟
- الاسطورة، سواء في الشعر أو في المسرح، هي وسيلة للتعبير عن التجارب الانسانية. التوظيف الاسطوري يمنح العمل حيوية وجاذبية وجدة وبكارة، ونحن في حياتنا المعاصرة نفتقد كل هذه العناصر.
الاسطورة بالنسبة لنا كنز، خصوصاً وان معظم الاساطير التي نتعامل معها وجدت في مجملها في منطقتنا العربية، منذ سومر حتى العرب، هناك ميثولوجيا موحدة تقريبا وإن كانت الاسماء مختلفة. وكتاب جيمس فريزر "الغصن الذهبي" بيّن ان طقوس الخصب في مصر وسورية والعراق تعبر عن معان واحدة بأسماء متعددة.
"دونيسيوس" من أصل شرقي. "ادونيس" سوري. "عشتار" يمنية. "تموز" سومري - بابلي. هذه الرموز هي التي تلقفها منا الشعر الغربي، موجودة في موروثنا القديم وهناك ما يعادلها في موروثنا الاسلامي وموروثنا الفولكلوري. فهي ليست رموزاً ميتة تنتمي لحضارات بائدة.
ولنأخذ شخصية "الخضر" مثلا، فهو رمز للتجدد الروحي لكنه لا يتصل بطقس من الطقوس كالرموز القديمة مثل تموز وادونيس وازوريس.. وهناك "السندباد"، رمز يتصل بالمغامرة واقتحام المجهول.
كل هذه الرموز من الممكن أن تكون مصادر الهام للشعر اينما كان الشعر. وهذا ما حدث في الشعر العالمي.
التاريخ يتحول الى اسطورة، والاسطورة في أساسها تاريخ. وهناك من ينظر الى الاسطورة بعين الريبة لانهم لا يفهمونها. الاسطورة كنز موروث، يأتي الشاعر المبدع اليوم ويتعامل مع هذا الكنز من خلال مخيلة ومعاناة. ويمكن أن يعيد صياغة هذا الكنز بما يتفق مع الشروط الوجودية الحاضرة.
كيف تُنجزُ الاسطورة؟
- يقول كلود ليفي شتراوس إن مؤلف الاسطورة مجهول. والاسطورة لها ثلاثة مستويات: شفرة اللغة وشفرة الاسطورة وشفرة العقل الجماعي الذي تعبر عنه الاسطورة، والذي يقوم المتلقي من خلالها بتشفير الاسطورة. المتلقي يعيد صياغة الاسطورة ويجعلها حية بشكل دائم. المهم هو تشفير الاسطورة. تصور أن شعباً لا يستطيع ان يشفّر أساطيره. هذا الشعب لن يكون قادراً على تشفير تاريخه.
والتاريخ هو الشيء الظاهر والاسطورة هي الشيء الكامن. فكيف يمكن لك أن تفهم تاريخك الظاهر وتترك تاريخك الكامن؟! أي كيف يمكن أن تشفِّر التاريخ ولا تشفّرالاسطورة؟! هذا يعني أنك تسد الباب أمام نموك الفكري والعقلي والروحي ونمو المخيلة وتصبح حرفياً عبداً للكلمة.
نحن لا نستطيع أن نسدَّ الدرب بين مخيلتنا ووجداننا وبين ينابيعنا الاسطورية، ولو فعلنا ذلك لقطعنا شرياناً اساسياً عن دورتنا الحضارية ودورتنا الابداعية. فهل يريد الذين ينظرون الى الاسطورة بريبة أن تكون دورتنا الابداعية بلا دم؟! هذه هي الاعاقة الحقيقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.