أليس مذهلاً كل هذا الفن، أليس عجيباً أن يملك شخص واحد كل هذا القدر من الفن، أليس هذا ما يدور في أذهاننا حين نرى أو نسمع أو نقرأ أو نختبر أي فن من الفنون بحواسنا، فناً قام به شخص واحد، على الرغم من ذلك هو متنوع وهو غني وهو يأخذ بأرواحنا إلى البعيد، إلى الحد الذي تدمع فيه عيوننا. أليس هذا ما شعرنا به ونحن نستمع إلى موسيقى الخالد عبدالوهاب. أنا شعرت بذلك وأنا بعيدة، أتابع الحفل على التلفزيون، وأحاول ألا تطرف عيناي لأنني شعرت بكل هذا الفن، ولم أرد، حتى وأنا بعيدة، أتابع من خلال الشاشة، لم أرد أن تفوتني لحظة أو نغمة. هذا ما يعنيه لي فن عبدالوهاب. كنت طفلة حين حكى لي والدي قصة لقاء السحاب بين أم كلثوم وعبدالوهاب، كان أبي وقتها يجلس أمام جهاز البيك اب، يضع أسطوانة أين عمري، ويقص علي حكاية العمالقة وأنا أستمع إلى المقدمة الموسيقية، كان أبي بصوت يقدر الفن يحفر في قلبي ذات التقدير كي أكبر وأنا أعي أن الفن شيء عظيم. لكن أمي هي التي قصت علي كيف أن جدي، حماها، كان في شبابه يتبختر في البلد الآسيوي البعيد، بملامحه العربية، وكيف كان يسبي قلوب الفتيات لأنه شبيه عبدالوهاب. لابد أن عائلتي العربية في البلد الآسيوي هي التي حملت فن عبدالوهاب وعرفت مجتمعاً لا يتحدث العربية بموسيقاه وأغانيه. هكذا كان عبدالوهاب حاضراً بقوة في تاريخ عائلتي. في صغري كانت أمي دائماً تترنم بأغنية النهر الخالد، أو ربما الجندول، أو كلتيهما، أغنيتان ليستا بشهرة بقية أغانيه، وبالفصحى، لكن، هذا هو مزاج أمي الساحر، أن تختار أغاني صعبة كي تدندن بها. وأكبر وأنا لا أعرف من يفتنني أكثر، عبدالوهاب أم اختيارات أمي. والآن أنا أستمع إلى ألحانه العظيمة، أغنية وراء أغنية وراء أغنية، في مسرح جبار، مع مطربين رائعين، وعدد هائل من عازفين بارعين، ومايسترو لا يكل وهو يقف بكل شموخ وحب وفخر لأنه يقدم في هذه الليلة المهيبة ألحان موسيقار نعجز عن وصف إنجازاته. ليلة تليق بعبدالوهاب، ليلة تعرف مدى تأثيرها حين ترى الوجوه التي التقطها المخرج الذي نقل الحفل بمنتهى الذكاء، والتي تظهر كم هي الموسيقى تذهب إلى أطراف الروح فتوقظها بلطف، وعمق، وتبعث فيها شجناً أو فرحاً أو شيئاً لا يشبه أي شيء، المهم أنه شعور فاتن وحقيقي وحالم. شكراً من القلب، كما هي كل مرة نشكر فيها هيئة الترفيه على كل المناسبات الهائلة التي تقوم بها، شكراً يليق بها، ويعجز عن الوصول إلى المدى الذي أريده.