دلالات الأوان وما تشي به في الثقافة العامة مبحث كلما امتدّ بي العمر مع الكتابة وجدتني منشغلا به من حيث تطوّره وديناميكيته الثقافية.. فالسواد مثلا ارتضيناه لونًا لأحزاننا وعنوانا لكآبتنا بل وصفة مطلقة لتشاؤمنا.. في المقابل اخترنا الأبيض لونا للصفاء والطهر ونحن نقيم العزاء والمآتم كلما ودّعنا حبيبًا متشحا بكفنه (الأبيض) في نظرتنا الأخيرة له.. لكن التاريخ يحمل لنا مفارقة عجيبة حول اختيار البياض لباسا للحداد عند أهل الأندلس، إذ جاءت هذه الطقوس الأندلسية البيضاء مخالفة للسائد العام عند معظم الشعوب وفي كل العصور، فمن المتعارف عليه أن السواد للحداد والبياض للكفن، لكن أهل الأندلس اختاروا البياض مطلقا في مآتمهم مما ألهم عددا كبيرا من شعراء ذلك العصر إلى فلسفة هذا الطقس ومحاولة تخريجه رؤيويا.. يقول الشاعر علي الحصري القيرواني، صاحب القصيدة الأندلسية الأشهر «ياليل الصب متى غده..» يقول في موقفه من هذا الطقس الحدادي: ألا يا أهل أندلس فطنتم بلطفكم إلى شيء عجيب لبستم في مآتمكم حدادًا وجئتم منه في زي غريب صدقتم فالبياض لباس حزنٍ وما حزن أشد من المشيب.. كذلك يقول الشاعر ابن شاطر السرقسطي: قد كنت لا أدري لأية علة صار البياض لباس كل مصاب حتى كساني الدهر سحق ملاءة بيضاء من شيبي لفقد شبابي فبذا تبين لي إصابة من رأى لبس البياض على نوى الأحباب *** إذًا لم يجد شعراء ذلك العصر -على ما يبدو- تخريجًا لهذه الظاهرة إلا استلهامهم لها زمنيا ومحاولة تعميقها صوابًا، من خلال تمريرها على هم الشيخوخة وشجونها، دون الالتفات إلى دلالاتها النفسية، والمدهش في الأمر أن الشاعر علي الحصري القيرواني كان كفيفا.. إذْ فقد بصره وهو في سن الخامسة من عمره، مما يعني أن استلهامه لهذه الصورة جاء بالبصيرة لا بالبصر، مما يؤكد لنا أن الشاعر استثمر هذا الطقس في شجنه تلقائيا دون محاولة تفسيره أو تخريجه اجتماعيا. والحقيقة أن رؤية البياض والسواد في المآتم ربما تعكس لنا دائما رحلة الإنسان عبر الوجود.. فالأموات يزفون إلى عالمهم الآخر مكفنين أو «مزفوفين» بالبياض دون أن يدركوا أي حزن تركوه لنا أحال بياض رحيلهم إلى سواد في عيوننا، لهذا بدا لي أن أهل الأندلس اختاروا بياض أمواتهم صورة للرضا عنهم حينما شاركوهم بياضهم.. هكذا بدا لي الأمر، على أنني على يقين تام من أن لحكايا التاريخ شؤون أخرى قد لا ندركها دائما.