يقول بيكاسو بما معناه: (أنا لا أبحث عن شيء بعينه على أنه مخبوء، بل أجد ما أحتفظ به بعد أن أتوصل إليه أثناء العمل نفسه). الفن إذاً قيد الإتيان، الفن قائم فيما يجري في الحياة، فيما يلامس وجدان الفنان ويترك أثره في مخيلته، فيما يتحصل منه بالخروج على عاداته المتبعة، الفن هو الإبحار في بيئة الفنان كما يحلو للبعض، الفن أحياناً عكس التيار والمشي في الاتجاه المعاكس، وهو القراءة بالمقلوب أو بالطول وغيرها من الصياغة التي تتطلب الفن في سلوكيات ومعالجات تخالف الجاري من الاعتيادات والإجراءات الفنية. لم تكن تلك الحارات والأزقة المليئة بالعمارة المدنية، إن جاز التعبير عمارة الحجاز، الغنية بمفرداتها الفنية، من رواشين صنعها الإنسان ابن بيئة المكان لتكون مفردة معمارية تميز المكان، وتحرض الفنان على أن تكون تلك الأماكن مادة لونية جميلة. كل هذا لم يكن بعيداً عن مخيلة وذاكرة الفنان التشكيلي في المملكة العربية السعودية وبالأخص في المدينةالمنورة، فقد كان لتلك الأزقة والحارات أهمية كبيرة في حياة الفنان فؤاد مغربل منذ صباه حتى نشأته وكانت هذه الحارات هي ذاكرته والمخزون البصري الذي أصبح هويته. ذاكرة المكان في أعمال الفنان مغربل إنها أحد الدوافع الأساسية في الفنون جميعاً، وهو التعبير عن النفس، فالفنان كما نعرف منذ التاريخ، قد يعمل برعاية الدولة أو برعاية سيد أو حاكم أو برعاية مؤسسة ثقافية أو غيرها، وقد يعمل مستقلاً بذاته عن كل أنواع الرعاية، وقد يكون صياداً بدائياً يشخبط على الصخور في داخل كهفه صور الحيوانات التي أحبها أو التي يتمنى صيدها، أو زاهداً حديثاً من زهاد العصر يعطي شكلاً مرئياً لهلوساته التشبيهية أو التجريبية، غير أنه في الحالات كلها إنما يستقي صورة أساسية من ابتكاره الذاتي وتجربته الداخلية أنه مدفوع دائماً لا يملك رداً له لكي لا يطلق تعبيراً عن رؤية من نوع آخر، تلح عليه في الأغلب إلحاح الهوس، وتعاوده مرة بعد أخرى، وفي أشكال لا تسلم نفسها له بسهولة، إنه على صلة بشيء داخلي لا يرى ولا يلمس لكنه شعور داخلي جامع يطالبه بالإبداع. لا شك أن الفنان فؤاد مغربل عاش تلك الحارات في المدينةالمنورة التي شكلت له هاجساً مهماً في هويته الثقافية، يحدثني أثناء زيارتي له في يوم السبت 28 سبتمبر، أنه كان يعيش في تلك الحارات القديمة للمدينة المنورة، وعاش طفولته فيها، حتى أصبح يعرف كل تفاصيلها، وكان مهووساً برسم تلك الأزقة بمبانيها ورواشينها بحس رومانسي، وكأنه يعزف أوتاراً صامتة، يسمعها المتلقي بعينه، واستمر منذ ذلك الحين أي قرابة خمسة عقود من الزمن حتى اليوم وهو يوظف تلك الأيقونات التراثية الرمزية في أعماله الفنية، التي طافت بقاع الأرض معلناً حبه لتراث المدينةالمنورة وموروثها وألعابها الشعبية، والضوء كان مصدراً مهماً في جميع أعماله الفنية، وكأنه يريد القول إنها مدينة النور، مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.