جرت العادة عند البعض أن يزجروا ويتهكموا على كل شخص دمعت عيناه حزناً أو أسى أو ضيقاً قد لزمه، وأخذوا على عاتقهم نشر ثقافة سائدة مفادها أن البكاء دلالة ضعف وانهزام داخلي، بل إن البعض ذمه وقبّحه وجعله علامة نقص في حق كل رجل كبير يبكي. والمتتبع لما آلت إليه الأبحاث والدراسات يجد أن العكس هو الصحيح في إثبات أن البكاء يحمل فوائد جمّة ورائعة للشخص الباكي، ولو لم يكن من إثبات أن البكاء ليس بمذموم لما رأينا نبي الرحمة -صلوات ربي وسلامه عليه- يبكي يوم أن رُفع إليه ابن ابنته وروحه تتقعقع حشرجة بالموت، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدموع بكاء وشفقة عليه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: «هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء». بل إن هناك دراسة أكاديمية أجريت في اليابان انتهت إلى حقيقة علمية مفادها أن البكاء أفضل من الضحك أو النوم أو الاسترخاء أو تناول فنجان من القهوة، وذلك من أجل التخفيف من الضغوط اليومية للحياة، حيث أوصت بالبكاء أو ذرف الدموع مرة واحدة على الأقل أسبوعياً من أجل التمتع بحياة أفضل صحياً. وأن البكاء يُخفف من الضغوط على الشخص بما يؤدي إلى تحسين صحته وتجنيبه الأمراض التي يمكن أن تنتج عن الضغوط النفسية ومتاعب الحياة اليومية. وتشير نتائج الدراسة التي نشرت جريدة "اندبندنت" البريطانية تقريراً عنها أن هناك رجلاً يُدعى هيدفومي يوشيدا نجح في أن يُصبح "معلم البكاء" في اليابان، حيث أجرى العديد من ورشات العمل والمحاضرات التي تشرح أهمية البكاء وفوائد ذرف الدموع لتلاميذ يتوزعون في مختلف أنحاء اليابان، وتنقل "اندبندنت" عن يوشيدا قوله: "إذا بكيت لمرة واحدة في الأسبوع فهذا يمكن أن يوفر لك حياة هادئة وخالية من الضغوط النفسية". هذا يعطينا دلالة كبيرة على أن البكاء يحمل في طياته فوائد جمّة للجسم والنفس بشكل عام، ولذا لم ينهَ النبي صلى الله عليه وسلم عن بكاء العين حين الشعور بالحزن أو حال الفقد وحاجة النفس إلى البكاء وذرف الدموع، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة، ومعه عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: "ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه"، متفق عليه، وهذا دليل جواز البكاء على الميت بغير ندب ولا نياحة، أما ما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"، محمل ذلك أن المراد بالبكاء ما يكون من قبيل النياحة واللطم وشق الجيوب مما جاء النهي به في أكثر من موضع، ومما يدل على أن البكاء هو من الأشياء المحمودة والجميلة في حياتنا دموع البكاء حال الفرح! فلو كان البكاء مذموماً لما اقترن بالفرح يوماً من الأيام، بل إن الدموع التي تنزل خشية وخوفاً من الله هي من الفضائل الكريمة التي تقربك إلى ربك وتوصلك إلى رحمة الله، حيث حُرّمت النار على عين بكت من خشية الله، فقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عَينانِ لا تمَسَّهما النَّارُ؛ عينٌ بكت من خشيةِ اللهِ، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيل اللهِ". لذا لا تحبس دمعة نزلت من عينك، ولا تنهى رجلاً كان أو امرأة، طفلاً كان أو كبيراً، من أن يبكي يوماً أو يسكب دموعه واحدة تلو الأخرى، بل ناوله المنديل وخفف من حزنه وواسه، ففي البكاء تنفيس وفضفضة روحية وغسيل للعيون، وإياك ثم إياك أن تبالغ في البكاء برفع صوت أو استدامة شبه يومية، فإن الشيء إذا طال أمده واتسع وقته قد يكون له من الآثار السلبية على الصحة ما لا تحمد عقباه! د. فهد بن أحمد النغيمش