للدكتور غازي القصيبي جملة من الملامح الباهرة التي حباه الله بها دون كثير من الناس، وتعددت هذه الملامح والجوانب في شخصيته فانعكست على إبداعه، فمنها ما هو سياسي، ومنها ما هو إداري، ومنها ما هو أدبي، ولعل أبرز ما يفتنك في شخصيته اجتماع الناس على محبته والإعجاب به والاتفاق على وطنيته، وهذه لعمري خصيصة أكرمه الله بها، وقلّ أن تجتمع في إنسان. وحين تقف عند ملمحه الثقافي والأدبي يبهرك منتوجه الإبداعي في كل حقل فني مارسه بتميز، وأعطاه ما أعطاه من روحه ونفسه بل سخر له فضل عقله، حتى يقول عنه من قرأه شاعراً إنه تفرغ للشعر دون سواه، وهناك من قرأه روائياً فتجده يقسم لك إنه أوقف حياته لفن الرواية، أما إذا قرأته كاتباً فستقنع الناس أن غازي القصيبي لم يخلق إلا لهذا الفن من النثر المصفى الجميل. ولكون تجارب القصيبي قد استوقفت كوكبة من الدارسين والنقاد لا سيما ديوان العرب (الشعر) وكذلك الرواية، وكان هذان الفنان محل اهتمام طلاب الدراسات العليا في الجامعات السعودية والعربية فاستنبطوا من نتاجه آراءهم النقدية وحللوا شعره ودرسوا نصوصه الروائية، فخرجت هذه الآراء في عدد من الكتب رفد بعضها المكتبة العربية. لكن قد يغفل المتلقي أن غازي القصيبي أحد رواد الكتابة النثرية في المملكة، وجاء أغلب نتاجه موزعاً في عدة فروع من النثر هي: المقالة الأدبية والنقدية ويمثلها بكل وضوح كتبه (الخليج يتحدث شعراً ونثراً) و(قصائد أعجبتني) و(مع ناجي ومعها) و(صوت من الخليج) و(بيت) و(من هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون؟) و(عن قبيلتي أحدثكم)، في حين جاءت المقالة السياسية والاقتصادية لتؤكدها كتبه (عن هذا وذاك) و(التنمية وجهاً لوجه) و(العولمة والهوية الوطنية) و(أمريكا والسعودية) و(في عين العاصفة)، وأما السيرة الذاتية فقد جاءت في عدة كتب منها (سيرة شعرية) و(حياة في الإدارة) و(الوزير المرافق) و(المواسم)، والأخير كان عن سيرة الحزن التي عاشها القصيبي بقسوة حين فجعة الردى في ثلة من ذويه، ناهيك أن نفراً من النقاد قد رأوا أن بعضاً من حياته موزع في أكثر من رواية ك(شقة الحرية) و(سعادة السفير) و(دينسكو) وغيرها، أما الخاطرة العاطفية المضخمة بالكلمات الفاتنة التي تقطر عشقاً وشجناً فلك أن تعود نحو كتابيه (100 ورقة ورد) و(مئة ورقة ياسمين)، ولك أن تتساءل كيف استطاع القصيبي أن يطوع قلمه ليخرج جمهرة من الكتب تصب في هذه الفروع الجميلة بكل روعة ودهشة رغم أن حياته مشحونة بالأعباء الجسام، ونحن هنا سنتحدث عن غازي القصيبي (الأديب والناقد) وإبراز جهوده الأدبية والنقدية ودراساته التي كتبها في بعض الصحف والمجلات ثم أخرجها في غير كتاب حتى يوثق هذه التجربة ضمن عدد من التجارب التي بلغ فيها من التجويد مرحلة متقدمة على الرغم أن نقده للنصوص ينهض على ذوقه وإعجابه وثقافته المتنوعة وعدم إيمانه بالنظريات النقدية الغربية والنظريات التي حولت النقد إلى كتابة شائهة لا طراوة فيها ولا جمال، لكن رأيه الذي بناه فيما كتبه قد اعتمد فيه على قراءته المستمرة والاطلاع الواسع على عيون الآثار في التراث العربي وكذلك ثمرات المطابع التي رفدته بالجديد من الأدب الحديث وما أنتجته الآداب الغربية وخرج باللغة الإنجليزية التي كان مجوداً فيها بلغ فيها حد التضلع، فترجم أكثر من كتاب أذكر منها كتاب (العلاقات الدولية) وكتاب (المؤمن الصادق)، ناهيك عن محفوظه الغزير من الشعر العربي الذي جعله قريباً له في شواهده التي تملأ فصوله ومقالاته. في الأحساء درة شرقنا الخصيب فتح الطفل غازي بن عبدالرحمن القصيبي عيناه للنور عام (1359 = 1940م) ليصنع بهجة وأنساً لأسرته الحساوية التي تعيش في يسار ونعيم بين أسر المنطقة، وعاش طفولته الأولى فيها متأملاً عيونها الدفاقة وواحاتها الخضراء والتي أزعم أنها أثّرت في إبداعه وانعكست على عطائه الأدبي وربما ساهمت في خلق نصوص مفعمة بالجمال وورّثته الحس المرهف، وقبل أن يصل لعامه السادس شاء لوالده أن يستقر في البحرين فالتحق بمدارسها ونال جل تعليمه الأوّلي من مدارسها. وحين أزف التحاقه بالمرحلة الثانوية رحل للقاهرة وتخرج في مدرسة الثانوية السعيدية، لكن الحياة في قاهرة الخمسينات كانت كفيلة أن تغري الشاب غازي لينضم لجامعتها التي كانت قلعة تضم أساطين اللغة والأدب والتاريخ والقانون والسياسة والاقتصاد، كل تلك الإغراءات نجحت في أن يكون غازي أحد طلاب كلية الحقوق فنال منها إجازتها عام (1961م). أصر الشاب غازي أن يوسع من أفقه العلمي فشد رحاله صوب بلاد العم سام وتحديداً جامعة كاليفورنيا فحصل على الماجستير عام (1964م) في العلاقات الدولية، ليعود بعد ذلك للرياض ويكون أحد أساتذة جامعة الملك سعود، ولم يمضِ على تعيينه السنوات الثلاث حتى غادر العاصمة السعودية نحو العاصمة البريطانية هذه المرة لينضم إلى جامعة لندن ويحصل منها على الدكتوراة عام (1970م)، ويعود لجامعته ليكون أستاذاً مساعداً في كلية التجارة، وبعد سنوات قليلة يرشح ليكون عميداً لها، ثم ينتقل هذا الشاب إلى السلك الوظيفي، ويبدأ حياة جديدة مع الوظيفة والروتين والبيروقراطية فيختار رئيساً لهيئة السكة الحديد، وحين لمس صاحب القرار تميز القصيبي في إدارته اختاره ليحمل حقيبة وزارة الصناعة والكهرباء، ثم توالت نجاحاته وبرزت عبقريته الإدارية، فنال وزارة تلو وزارة منها وزارة الصحة ووزارة المياه والكهرباء ووزارة العمل، وكذلك سفارة بعد سفارة، فمثل المملكة سفيراً لها في البحرين ثم سفيراً في بريطانيا، وكلما عهد إليه بأمر حقق فيه النصيب الأوفر من العطاء والتميز والنجاح، حتى لبى نداء ربه عام (1431 = 2010م) وهو على رأس الوزارة وفي قمة التوهج والحضور الذي نال من خلاله إعجاب كافة الأوساط السياسية والعلمية والثقافية والاجتماعية، مؤكدة هذه الأوساط خسارتها الفادحة التي منيت بها برحيله. يذكر أديبنا القصيبي أن مكتبه يستقبل شبه يومي كتاباً أو ديواناً أو قصة أو دراسة يأمل أصحابها أن تحظى بمتابعته فيكتب عنها بضعة أسطر تحقق لهم شيئاً من الخلود والذكر الحسن، لا سيما وأن القصيبي حتى رحيله ظل لسنوات منارة مهمة جداً في ميدان الثقافة والأدب، فأخذ على عاتقه أن تكون بعضاً من كتاباته أقرب إلى كلمات التشجيع والتحفيز لصاحب النص وأن تحمل كلماته رقة وعذوبة لا سيما إن كان المنقود في مقتبل العمر وريق الشباب حتى لا يصطدم بلغة جافية، وحين يريد القصيبي أن يكشف مكمن الضعف واللين أحال كلمات السخرية والعتب على نفسه لكي يُوْصل إلى صاحب النص ما يصبو إليه بكل اقتدار وفنية، يقول في كتابه (الخليج يتحدث شعراً ونثراً) عن دواوين (مكة الثريا) للدكتور إبراهيم نتو: (إن ما احتواه الديوان من نظم لن يدخل تاريخ الأدب ولكن سيدخل بجدارة تاريخ الإخوانيات لأنه في مجمله، شعر مناسبات يضم كل مناسبة تخطر على البال، ومناسبات لا تخطر على البال، والطريف في الأبيات - ومعظمها طريف - أن صاحبنا يخترع كلمات جديدة ولا يبالي..) إلى نهاية مقالته، وقد تناول القصيبي في صفحات الكتاب المذكور نماذج أخرى من دواوين وقصص وروايات ودراسات، تارة يظهر إعجابه وتارة أخرى يعود لممارسة السخرية اللاذعة لتصل لصاحب الكتاب بتلميح دون تجريح، وهذا لعمري من أشد ضروب النقد، والحديث يطول لو قصدت إلى الشاهد والدليل، وعلى هذا المنوال يأتي كتابه الآخر (صوت من الخليج) وهما في حقيقتهما فصول قصيرة سبق أن نشرها في المجلة العربية منتصف تسعينات القرن الماضي. ولو تأملت كتابه (بيت) لرأيت كيف يقف غازي القصيبي أمام كل بيت شعري اختاره بمهارة فائقة لكوكبة من الشعراء الكبار قديماً وحديثاً عرباً وعجماً بتقدير وتبجيل ويستنطق ملامح الجمال التي أودعه فيها الشاعر ويتحاور معه بإعجاب ويهمس له أنك أيها البيت قد نجحت في أن تدخلني منطقة الوعي والتفكير، ولذلك يوضح رأيه في مقدمة كتاب (بيت): (في هذه الصفحات محاولة متواضعة جداً، محصورة جداً، لإرجاع الشعر إلى طبيعته، تعبيراً عفوياً من تجارب الروح البشرية، وتحريره من أغلال النقد الثقيلة، التي كثيرا ما تغتال أجمل ما فيه). ولعل القارئ استنتج أن جلّ ما يدبجه أديبنا القصيبي نابع عن إعجاب وانبهار مما قرأه، فلا يخفي جمال ما قرأ، وبلغت الجرأة بالقصيبي أن يكشف للقارئ موقفه من الشعر دون مواربة ومخادعة، بل وصل به الأمر أن نال من عرش القوافي وهو أحد أرباب هذا الفن بلا جدال، فكان واقعياً جداً في موقفه مع الشعر والشاعر، إذ يرى أن (الشاعر مثله كمثل سائر البشر عرضة لمختلف أنواع الضعف البشري، إذ إن الناس قد صنعوا له هالة من الأوهام فقالوا عنه إنه أرق إحساساً وأرهف شعوراً، بل إنهم وضعوا للشاعر صفات أرفع شأناً كونه مفكراً عظيماً أو فيلسوفاً كبيراً، وهذا لعمري (والحديث للقصيبي) ما لا تجده في قصائد بودلير وريلكه وبايرون والسياب وناجي ونزار، وأنا لا أؤمن بأي شاعر إذا لم يكن صادقاً مع نفسه ومع تجارب الآخرين دون أن يزيف ضميره أو تجاربه أو يعرض مشاعره للبيع أو للإيجار، بل أرى أن على الشاعر أو أي مبدع أن يرتبط بواقعه فيكون جزءاً من رسالته الفنية). وإذا أردنا أن نعرف الجانب الآخر من موقفه من جمال القصيدة العربية وما خلدته الذاكرة العربية في ثقافتنا فدونك كتابه (قصائد أعجبتني)، الذي يصل فيه إلى قمة الإعجاب الذي يحتمي بدهشة النص فيستحوذ عليه، وكأني به قد استأنس بحديقة أشجارها يانعة وظل يقطف من ورودها وأزهارها، وكان القصيبي في هذا الكتاب راقٍ فيما اختار، وبارع فيما استوقف من نصوص، ليحللها تحليلاً أدبياً ماتعاً، انظر إليه وهو يقف هائماً حباً بنصوص شعرية هي علامات مهمة في ديوان العرب دوّنها المتنبي ومالك بن الريب وإبراهيم العريض وإبراهيم ناجي وصلاح عبدالصبور، فيضع كل قصيدة في مكانة جديرة بها دون أن تتشابه الأماكن، ويرسم لكل نص بورتوريه يتناسب مع كفاءته، بل أرى أن هذا الكتاب يضع اللبنات الأولى في النقد ويؤسس لفكرة الذوق عند قارئه. هكذا كان الأديب والشاعر غازي القصيبي يتعامل مع النصوص بكل الحب والجرأة معاً دون أن يجامل أو يداهن حتى لا يوقع القارئ في الكتابة الآسنة التي تزكم الذائقة. رحم الله أديبنا الكبير وشاعرنا الفذ، الذي أغدق على المكتبة العربية بجمهرة من التآليف ذات الفائدة الغزيرة والمتعة اللطيفة، وبرحيله المفجع سكت اللسان الذليق وخمد الذهن المتوقد ووقف الفؤاد الذكي ليصبح بعد ذلك نعياً في الصحف وخبراً في البلاد وحديثاً في المجالس، رحم الله غازي القصيبي مثقفاً وإنساناً وبرد الله بالرضوان ثراه. محمد باوزير - جدة