لكل فرد في هذا العالم ذكريات خاصة به تبدأ معه من مراحل طفولته الأولى وتستمر حتى نهاية حياته، ولكل ذكرى مكان خاص بها تجعل ذلك المكان ذا أهمية خاصة لدى الفرد. وإذا أردنا جمع تلك الأماكن في مكان واحد نحصل على الوطن الذي يجمع الأهل والأصدقاء ومع مرور الوقت أصبح يجمع بين جميع الناس في تلك الرقعة الجغرافية وحدة الدم والتاريخ والأفراح والآلام. تلك المشاعر التي تنشأ منذ الطفولة تستمر في النمو وتزداد مع مرور الوقت ليجد الفرد نفسه محباً لذلك المكان ويفتخر به ويذود عنه ويصبح هذا المكان وطنه. ومن هنا نشأ الشعر الوطني والذي هو نمط من أنماط الشعر العربي، وهنا لا يفوتني وأنا أتناول هذه المقدمة للإبحار في قصائد ومقطوعات شاعرنا معالي الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة، والتي ضمّنها في مجموعته الشعرية خميسيات حيث انتهج الحكمة منهجاً في شعره فتميز بنمط شعري متجدد ارتآه مسلكاً فريداً يبسط فيه أفكاره متمسكاً بأخلاق الدين الحنيف والذي تنطق بها أبياته الشعرية وتنطق بالوطنية وبالأخلاقيات التي يلتزم بها المسلم بديهياً. والحكمة بوجهة نظر الدكتور سالم المالك تعني العلم والعمل مع موافقة الحق سواء بالفطرة أو الاكتساب، من هذا المنطلق استطاع الدكتور المالك ترسيخ مبدأ الحكمة في شعره باعتبارها من مقومات الهوية الوطنية العربية والإسلامية ويمضي الدكتور المالك من خلال خميسياته باحثاً عن القيم المثلى في نبل المقاصد وداعياً للتمسك بها لكونها النهج القويم للإصلاح وتجاوز المعوقات والصعوبات والتحديات ولذلك اتضح الإبداع في شعره سواء كان قصيداً أو مقطوعات كما نراها في الخميسيات، وهناك ثلاثة أسباب لتسمية الدكتور المالك لمقطوعاته الأسبوعية بالخميسيات وهي: أولاً: سميت خميسيات لأنها تتكون من خمسة أبيات. ثانياً: لكونها تنشر كل يوم خميس. وثالثاً: إنها على حسب عدد أبنائه وبناته -حفظهم الله-، وكأنه يرمز لكل منهم ببيت في خميسياته. وتقرأ لفظ الخميسيات على وجهين، الأول بفتح الخاء وكسر الميم أو خُمَيسيات بضم الخاء وفتح الميم وكلا الوجهين صحيحان في النطق، علماً أن انطلاقة الخميسيات كانت في مطلع شهر فبراير 2015 وفي فبراير 2025 ستكمل عشر سنوات لم يتوقف فيهن الدكتور المالك من التواصل الشعري مع عشاق الشعر. وقد أصدرتها منظمة الإيسيسكو ضمن النشاط الثقافي والأدبي، ولا يفوتني أن أنوه بأن الدكتور المالك سبق وأن أصدر كتاباً بعنوان مرآة الأيام يحتوي على 365 حكمة بعدد أيام السنة فلا عجب أن تنهمر الحكمة ينبوعاً ثراً في شعر الدكتور المالك حيث طرز بشعره لوحة باذخة الجمال تزخر بالحكمة بقوة ألفاظها وصورها البليغة. وقد صدر من الخميسيات حتى الآن تسعة أجزاء وبصدور الجزء العاشر كما هو مقرر له في بداية العام 2025 تكون الخميسيات قد عانقت عامها العاشر، والمتصفح لجميع أجزاء الخميسيات خلال عقد من الزمان سيجد أنها تميزت وتفردت بأربع مميزات لا تخفى على عين القارئ المتفحص وهي: أولاً: أنها تطرقت لجميع جوانب الشعر مثل الغزل والحماس والوطنية ووصف المناسبات المختلفة ومكارم الأخلاق والمدائح النبوية، وإن كنت أرى أن مشاعر الوطنية تجلت بوضوح في غالب المقطوعات. حيث اكتنزت بحب فطري للوطن بأبيات تفوح بصدق المشاعر تجاه الوطن وقيادته. ثانياً: احتوت على الفن التشكيلي إيماناً من الدكتور المالك بأن الشعر والفن التشكيلي متجانسان ومتناغمان ويصوران ما يخالج الفكر ويجاري الأحداث. ثالثاً: الاهتمام بالخط العربي، فكل إصدار من الخميسيات كُتب بنوع من أنواع الخط العربي التي شكلت لوحات زخرفية هندسية لإبراز غناء وثراء وأهمية الخط العربي وترسيخ جماله ومكانته لدى الأجيال القادمة. رابعاً: وهي عبارة عن خمسة أبيات (مقطوعة شعرية) تأتي متزامنة مع الأحداث وتتنقل من بحر إلى بحر ومن موضوع إلى آخر وتطرقت لجميع جوانب الشعر وهي معنونة بالحكمة والتي تتصدر كل خميسية. ويمكن لمتتبعي الشعر العربي ملاحظة أن الشعر في أسرار الأشياء لا في الأشياء ذاتها، ولهذا يمتاز بقدرته على خَلْق الألوان النفسية التي تصبغ كل شيء وتلوِّنه لإظهار حقائقه ودقائقه حتى يجري مجراه في النفس ويجوز مجازه فيها؛ فكل شيء تعاوَره الناس من أشياء هذه الدنيا فهو إنما يعطيهم مادته في هيئته الصامتة، حتى إذا انتهى إلى الشاعر أعطاه هذه المادة في صورتها المكتملة، فأبانت عن نفسها في شعره الجميل بخصائص ودقائق لم يكن يراها الناس كأنها ليست فيها، وهذا هو نهج شاعرنا معالي الدكتور سالم بن محمد المالك في مقاربته للشعر الوطني في قصائده حيث يؤطر للشعر الوطني نمطاً حماسياً مميزاً، يجعل منه ذا وقع قوي على مستمعيه بالإضافة إلى جمالية الصور التعبيرية والمصطلحات العربية القوية حيث سجل هذا النمط من الشعر الوطني مكانته بين الشعوب العربية في إثارة الوعي لدى الشعوب العربية. وكقدر كل الشعراء السعوديين العظام في الوقوع بعشق مدينة الرياض عاصمة الوطن لم يكن شاعرنا الدكتور سالم المالك استثناءً، فقد خصص الكثير من شعره لمخاطبة الرياض ومغازلة الرياض وتمجيد الرياض شأنه شأن الراحل الشاعر، السفير، الأديب، الروائي، الأكاديمي، ومعالي الوزير: الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- في قصيدته (أنتِ الرياض) حيث انتهج نهجاً فريداً في حب الرياض وجعلها في مقام الحبيبة ومزجهما مع بعضهما حتى أصبحا في النهاية شيئاً واحداً، فتُذكّره الرياض بالحبيبة والحبيبة بالرياض.. فيقول رحمه الله: وفاتنة أنتِ مثل الرياض ترقّ ملامحها في المطر وقاسية أنتِ مثل الرياض تعذب عشاقَها بالضجر ونائية أنتِ مثل الرياض يطول إليها.. إليكِ.. السفر. هنيئاً لنا مثل هذه القامة الأدبية الشامخة، وهنيئاً لكل من عرف هذا الإنسان الرائع الذي قدم للمجتمع الأدبي المحلي والعالمي ما عجز عن تقديمه المئات من الأطباء، ونأمل أن يكون هذا الوفي لبلده ولزملائه ولعمله قدوة للكثير من الأشخاص للنهوض بواقع الأدب في المملكة العربية السعودية. وأن يستمر في تمثيل الوطن خير تمثيل على كل الصعد وفي كل مجالات الثقافية والدبلوماسية. * المدير الطبي بمستشفى د. المشاري في الرياض