هل أقبلَ عليك الدهرُ يومًا؛ قُبيل الفجرِ أو في ساعة الإشراقِ، وانتشلت عنكَ نوائل الأحلامِ نوائب الأيام، في كل نائلةٍ برقُ سحابةٍ تضيء نحو صروف الليالي، هو ذا الإقبال بما فيه من لحاظٍ وصبحٍ وندى وكأسٍ رويٌ ونبضة برقٍ بين وقتٍ ووقت، بل لو كان في عمركَ كله نبضات معرفة على عدد دقات قلبك وحساب لحظات السنين كي تغدو محيطا بكل شيء! ولكن هيهات فقد أتى على الإنسان حينٌ من الزمن في صحائفه فواصلٌ ومحطاتٌ ومواقف يقف فيها، يراجع مهامه هل أتقنها وهل أحكمها ومن ثم يتساءل لما كل هذه الأشياء؟ ولعلنا في آنيتنا هذه نستحضر بيت البارودي (ت 1904) بقوله: علامَ يعيشُ المرءُ في الدهرِ خاملًا... أيفرحُ في الدنيا بيومٍ يعدهُ إنه التساؤل في بحرٍ لجي تتلاطمهُ الأنباء من كل حدبٍ وصوب وتتقاذفه الألسن بين ضحكةٍ وسطوة. إذ لا بد من عيشٍ كريم تسلكه في دروب المعرفة والوقار، والتعقل في أمور الحياة مهما كانت الحقيقة بائنة من نبأٍ أو صورة، فهي الغشاوة إن لم تتحقق من دياجيرها وظلمتها وما خفي عنك من مصادرها وتفاصيلها، خُذ الحكمة من لبها تكن أسعد القوم. وقولٌ آخر من نفس شاعرنا في حال الدهر: أَبَى الدّهرُ إِلَا أَن يَسُودَ وَضيعهُ وَيَملكَ أعناقَ المَطالِبِ وَغدهُ وفي هذا الأمر يوضح أن التهاون وعدم امتلاك الرؤيا الواضحة تنداح كل الآمال والصروح بغمضة عين؛ وينالها الوضيع لا بسبب ذكائه وحدته وإنما بسبب تخاذل الآخر. فالدهر لا يعطي من ذاته، بل يطلب منك أن تنفذ إرادته في الخصائص التي وضعها في ذاتك وجعل منك ينبوعًا في هذا الملكوت فأنت توحي لنفسك كما الحياة توحي لك كل فضائلها، وما عليك إلا المحافظة على خصالك المتمثلة بالأخلاق والفضيلة والمعرفة وحب الخير ورؤية الجمال بما هو أجمل حين تكون على معرفةٍ ودراية بالغة مستمدة من (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) منهجُ حياة في كل تجلياتها وصورتها قائمة في ذاتها النورانية تقتبس منها عقولنا نحو الحركة تلو الحركة حتى نصل إلى الينبوع الأسمى نيرفانتنا الصمدية؛ القوة التي تجعل العقل الكوني يسير بنا نحو تفاصيل الزمن ولعلها أسفارٌ يجول بها الملاح طورًا ثم يهتدي إلى أجلٍ غير ذي بأسٍ تتملكه العناية الإلهية في حركتها الدائمة القائمة. وحين يصبح الاعتدال كالمصباح الوهاج، سيكون يومك بائنٌ كالشمس في رابعة النهار لا يثنيكَ شكٌ ولا يريبكَ أسفٌ وإنما تأخذُ مطالبك بحكمةٍ صالحةٍ لا فسادَ فيها ولا تثريب. خالد الوحيمد