بدأ بزوغ فجر جديد في حياة اللغة العربية فبعد أن جفاها أهلها وانتقصوها ورأوا زورا أن الثقافة الحقة في ترديد المفردات الإنجليزية والتنصل من التراث العربي واتهموا من يتعاطاه بالانزواء في كهوف الماضي انطلق الصوت الذي ألفته الأسماع في كل البقاع لا ليقرأ قرآنا ولا ليقنت في صلاة تهجد، ولكن في خطبة مجلجلة حملت عنوان «الفخر باللغة العربية» شخصت حال أهلها وتنكرهم لها وانبهارهم بغيرها. أتحدث هنا عن خطبة إمام الحرم عبدالرحمن السديس يوم 27 شوال 1433 وأثني عليها وأشيد بقيمتها ومداها؛ لأن الخطيب أدرك قيمة المنبر ومكانته فانبرى مكافحا ومنافحا عن العربية في لغة بيانية عالية وفصاحة متناهية كقوله : (إن المتأمل في تأريخ الأمم والمجتمعات وتعاقب الأمجاد والحضارات يلفي فيها ركنا ركينا ، وقطبا من أقطابها متينا، يعد من أهم ثوابتها وأصولها ، وسبب نشأتها وقيامها ، ذلكم هو : لسانها ولغتُها. فاللغة تعلي الرفيع عن الوضيع ، وأنى يدرك الضالع شأو الضليع ، وإننا أبناء هذه الأمة من الله علينا بأفصح لسان ، وأبلغ بيان ، وأفضلِ لغة...) ، إذن اللغة من خلال منبر الحرم هي زهرة التأريخ العابقة ، ومزنة النور الوادقة، وإشراقة الدنيا الصادقة ، وشهادة الأجيال الناطقة ، إنها المنهل الدفوق للعلياء والتمكين ، والبيان والتبيين ، والينبوع الثر الذي ترتوي منه العقول الصادية ، والسراج الوهاج الذي يضيء المجتمعات العاشية. لغة إذا وقعت على أسماعنا كانت لنا بردا على الأكباد ستظل رابطة تؤلف بيننا فهي الرجاء لناطقٍ بالضاد، لقد كان العرب أمة ممزقة الإهاب مفترسة الجناب ، تعيش في يباب ، ولكن جمعتهم أواصر الفصاحة الهمامة ، وألبستهم أثواب المروءة والشهامة ، فعلى بساط اللغة يجتمعون ، وفي وريف ظلها يبدعون ، ويبدي كل ما في وِطابه ويكشف عما حوى في جرابه من نثرها وشعرها ، ونحوها وصرفها ، وبلاغتها واشتقاقها ؛ فبين فخر وهجاء ، ومدح ووصف ورثاء يمتعون أسماع الزمان ، ويبهِجون مقل الأكوان بسلسالٍ من بديع الألحان ، وعذب الكلمات الحسان .. لكن لغتنا اليوم وفي عصر العولمة ، وغلبة عامي اللهجات ، وثورة التقنات ، وانفجار المعلومات ، وفضائي القنوات والشبكات رباعها مجفوة ، وقصاعها مكفوة ، ورقاعها غير ملتامة ولا مرفوة ، بعدما كانت عذبة التغاريد ، حسنةَ الألفاظ والمفاريد ، رضي بها الأسلاف في المفاخر والمنافح ، وصقلوا بها الأذهان والقرائح ، وكانت ترجمانا صادقا لكثير من الحضارات المتعاقبة ، وكانت سببا لتقارب الأمم ، فتمازجت أذواقهم ، وتوحدت مشاربهم ، وأعلى الدين شأوها ، ورفع شأنها. نعم -كما قال معاليه- لقد أضحت اللغة العربية لدى كثير من أبنائنا في خفوت ، ورياحها الشذية العبقة في هفوت ، بما يلح أن ندندن حول ذياك المعينِ السلسال ، ونلج هذا النمير المنهال ، لنحيي شقاشق اللغة الهادرة ، ونعبر دياجير العجمة الغامرة.