سمعت مقطعاً متداولاً لأحد كبار أثرياء الوطن يوصي بتأمل الحياة وقصرها وينصح بأعمال البر والإحسان قبل الوفاة، ويسرد قصة واقعية يتحدث عنها بحرارة ومرارة عن أبناء رجل ثري راحل، يقول إن هناك ناصحاً في مجلس العزاء يحث الأبناء بالصدقة من مال أبيهم المتوفي، فيرد أحد الأبناء: "يا عم الحلال اليوم حلالنا مهوب حلال أبونا"! يعقّب الناصح (أخ المتوفي): طيب تصدقوا من هذا المال لروح أبيكم. ليجيب كبير الأبناء (العاقين): "يا عم محد مسك يد أبونا يتصدق وهو حي"! كمْ تألمت لهذه القصة الموثقة في حسابي بمنصة (X) وأعيد سماعها بين حين وآخر للعظة والعبرة وحين استمع إليها صديقي تقاطرت دموعه واستاء وظل متألماً طوال يومه وعندما التقيته لاحقاً سألته عن حاله فأجاب بدأت أعيد حساباتي وأول عمل قمت به هو توثيق وصيتي في منصة ناجز حيث أوصيت بإنفاق ثلث تركتي في أعمال البر والإحسان ولو جاز أكثر من الثلث لكنت لفعلت! ويردف؛ هناك قرارات لي قادمة في ممتلكاتي لأستمتع في دنياي وأستثمر في آخرتي فلا ضمان لأحد من الورثة. هذا النموذج من بعض الأبناء لا يكاد يصدّق لكنه فعلاً موجود بيننا، بعضهم يتظاهر بالوفاء والحب للوالدين غير أنه عند وفاة أحدهما يظهر شرّه وينقلب إلى شرِه معدوم الضمير ومنهم من يختصمون في اليوم الأول على الورث وقد أسرّ إلي رجل بأقصر قصة موجعة وهي أن أحد أبنائه فَلَت لسانه أمامه ذات مرّة حين تمنّى وفاة أبيه لأجل ماله رغم أن الابن بالغ راشد وموظف لا ينقصه شيء! وعلى فرض أن الأب أو الأم بخلاء إلا أنهم في النهاية آباء يجب الإحسان إليهم في الحياة والممات ومعاملتهم بالمعروف حتى وإن أشركوا كما في محكم التنزيل، ثم إنهم قد حفظوا المال للورثة ولو كانوا مسرفين لما وصل إليهم منه شيء. ولعل الأب أو الأم قد قتّروا على الأولاد لأجل مصلحتهم ولبناء أنفسهم والاعتماد على ذواتهم وجهدهم كما فعل والديهم. إن تقاسم الورثة لأموال المتوفي دون التفكير بالصدقات والإحسان عن روحه إحدى أسوأ صور العقوق والجحود التي قد تصدر عن البعض، فبدلًا من شكر الله على نعمة التركة التي حصلوا عليها - دون عناء- ويستقطعوا جزءاً منها في أعمال الخير والإنفاق على الفقراء المساكين براً بالمتوفي إلا أننا نجد بعضهم يرى المال مجرّد حق خاص لهم دون أي واجب أو مسؤولية شرعية أو أخلاقية تجاه الراحل، بل وقد يتمادى بنسيانهم ويحرمهم من أبسط حقوقهم وهو الدعاء والذكر الحسن الذي ينتفع به الميت ويسر به قلوب أحبته. إن هذا السلوك البشع والشرير ليس جريمة سلوكية وانتهاكاً للشريعة السمحة فقط ولكنه أيضاً خسارة روحية وسقطة أخلاقية للورثة أنفسهم. فالمتوفي عند العاقين سيُحرم من أعمال الخير ودعوات أبنائه وذكراهم الحسنة له، -وفي المقابل- سيُحرم الورثة الشرهون من بركة هذه الأعمال الصالحة التي من شأنها أن ترفع من درجاتهم في الدارين وتقرّب قلوبهم إلى الخالق والخلق وبذلك يسجلون خسارتهم ويسقطون حتى في نظرة المجتمع إليهم، لهذا يا صديقي القارئ "استمتع بحلالك في دنياك -بالطرق المشروعة- واستثمر لآخرتك فلا ضمان لأحد من الورثة"، كما يقول محدثنا في مطلع المقال.