خصَّ الله تعالى الإنسان بمميزاتٍ عديدةٍ وهذه المميزات يشملها على سبيل الإجمال خَلْقُ الإنسانِ في أحسن تقويمٍ، فهذا يشمل الخصائص الخارجية المحسوسة من تميز هيأة البشر وتناسق خِلقتهم، كما تشمل أحسنيةَ تقويمهم فيما يتعلق بالقُوى الباطنيةِ من فطرةٍ مميزةٍ وفكرٍ وعقلٍ وعلمٍ، وسائر ما يحتاج إليه الإنسان لِيُسهم فيما هيّأ الله له البشرية من كونهم خلائف في الأرض، مسخرةً لهم هي وما فيها ليعمروها، ويُصلحوا فيها بعبادةِ خالقهم والسعي في معاشهم بالتي هي أحسن، وأهم هذه الخصال قابلية التفكير بالعقل الذي هو غريزةٌ يُستعانُ بها في تمييز الضار من النافع، سواء كان الضرر والنفع حسيين أو معنويين، وبعض الناس يستعين بهذه الإمكانات والإضاءات ليهتدي إلى منافعه، ويتحاشى المفاسد، ومنهم من يزيد على هذا نفع مجتمعه بما اهتدى إليه من ذلك، وبعض الناس يستغلُّ تلك الإمكانات للمكر بغيره من الناسِ، وإيقاعهم في أنواع المتاعبِ، فلا غنى للإنسانِ عن استعمال الكياسة والذكاء في تفادي شرِّ أولئك المتربِّصين، فهم لا يُفوتون فرصةً في إغواء من وقع في حبائلهم، ولي مع التزام الكياسة وقفات: الأولى: الكياسة كما يقول العلماء: كمال العقل، وشدة معرفة الإنسان الأمورَ، وتمييز ما فيه النفع مما فيه الضرر، ويحتاج الإنسانُ إلى هذا في الضروريات الكبرى وفي سائر شؤونه من الحاجيات وما دونها، والوازع الديني واحترام النظام يختصر للإنسانِ ما يحتاج إليه من ذلك، أما الضروريات؛ فلأن أولها الذي هو حفظ الدين لم تُفوَّض أسسه إلى البشر، بل هو عبارةٌ عن أوامر الله تعالى ونواهيه وإرشاداته، وقد تولى سبحانه وتعالى تبيين ذلك، فبعث إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بلَّغ البلاغ المبين ونصح وأرشد، فليست للإنسان حجة في أن يتخبط تخبُّطَ العشواءِ في شؤون دينه، ولا أن يغترَّ بداعيةِ ضلالٍ أو مبتدعٍ أو مستغلٍّ للدين، وفي التزام جماعة المسلين التي أوجبها الله تعالى أمانٌ من ذلك الاستغلال، وأما البقية وهي حفظ النفس والمال والعقل والعرض فانضمامُ الشمل ووحدة الصف في طاعة إمام المسلمين، والتقيد بالأنظمة الضابطة لشؤون العباد كل هذا كفيلٌ بإذن الله تعالى بحفظ تلك الضروريات، فَحِفْظُها مرتبطٌ باستتباب الأمن وعموم السكينة والاستقرار، وأما حاجياته فما دونها، فمضمونٌ له في النظام أن لا يُستغفلَ فيها إذا التزم الأنظمة في معاملاته المتعلقة بها، فهذه الأنظمة مستمدة من الشرع الحنيف الأغرّ بواسطة عقولٍ بشريةٍ فذةٍ؛ سُخِّرت لهذا ليُكفى عامةُ الناس مؤونة الاجتهاد فيما لم تجر العادة باهتداء الجميع إلى الصواب فيه، فمقتضى الكياسة الالتزام بها. الثانية: إذا كان الإنسان محتاجاً إلى التزام الكياسة منذ استُخلف في هذه الأرض، فإن عصرنا هذا أحق الأزمنة بهذا الحزم، فإن أصحاب المآرب المشبوهة وذوي النفوس المريضة قد توفرت لهم الوسائل بواسطة الإمكانات التقنية الحديثة، ولا ينبغي أن يفكر الإنسانُ في أنه سيُكفى تعب التزام الكياسة، وهناك الأعداد الغفيرة من الحاقدين والمستغفلين يضخون سمومهم في الفضاء المفتوح الذي تمثله وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد سدد هؤلاء ضرباتٍ مؤلمةً لبعض المجتمعات حتى شتت شملها، وأعادتهم إلى الوراء كثيراً، وقد أظهروا لهم اهتماماً كبيراً حين أرادوا الإيقاع بهم، ولما فرغوا منهم نسوهم كأن لم يخلقوا ولم تعد مآسيهم تهمُّهم، وصارت أنظارهم المسمومة متوجهة إلى الشعوب التي لم تزل في عافيةٍ من أمرها، فهمهم الشاغل أن يصيبوا من وحدةِ صفِّها، فلا بدَّ من الكياسة في مواجهة أولئك، ومما يتحقق به توقي شرِّهم بإذن الله تعالى وثوق الإنسانِ بقيادته ووطنه وعدم الإصغاء إلى المرجفين فضلاً عن الركون إليهم، وهذا تدبيرٌ وجهنا الله تعالى إليه في قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ). الثالثة: قد يكون من قدر الله تعالى أن يكون الإنسان غير كيِّسٍ بنفسه، ففي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ»، أخرجه مسلم، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يتكايَس وأن لا يستفيد من أهل الكياسة والتدبير، فالأخلاق العالية إما أن يُجبلَ الإنسان عليها، ويستعملها فيما ينبغي، وإما أن يكون غير مجبولٍ عليها، ويمكنه أن يتفادى آثار ذلك بمحاولة تنمية ما عنده من أصلها؛ إذ الإنسان السليم لا يخلو من بعض تلك الخصال وإنما ينقصه ما يكفي منها، وهذا يمكن اكتسابه، ويمكن الاقتداء بالموصوفين به، واستشارتهم والاستفادة منهم، ومن كان ناقص الكياسة ولم يعالجها بشيءٍ من ذلك، فقد أحاط به العجز.