الرياض - خاص الجزيرة من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية بل وأعلاها مرتبة صيانة الأركان الضرورية للحياة البشرية وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، حيث أكدت عديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على حفظ هذه الضرورات ومن ذلك قول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ، وفي الحديث الذي رواه أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)، اثنان من أصحاب الفضيلة تحدثوا عن هذه الضرورات الخمس، وكيف عالجها الدين الإسلامي، ورقي بها، وكيف دافع عنها، ومع ذكر آثارها السلبية على الحياة البشرية للفرد والمجتمع في حالة الإخلال بأي منها منفردة أو مجتمعة. الضرورات مفاهيم وإشارات في البداية قال الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ما شرعت الشرايع، وجاءت النبوات إلا من أجل تحقيق مصالح العباد، الدينية والدنيوية، قال الحق تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }، وهذه المصالح إما جلب منفعة عاجلة أو آجلة، وإما درء مفسدة عاجلة أو آجلة. كما أن هذه المصالح بنوعيها لها رتب ثلاث، أشار إليها كثير من علماء الإسلام، وفصلها الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات)، وهي: الضرورات، والحاجات والتحسينات. الذي يهمنا في هذا المقام هو الضرورة أو الضروريات وابتداءً نقول: إن الضرورات جمع الضرورة، وهي اسم من الاضطرار كما في المصباح المنير، والضرورية نسبة إلى الضروري وهو ما اتصلت الحاجة إليه إلى حد الضرورة. أي أن قوام الحياة الإنسانية متوقف عليها، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين (ينظر: الموافقات 2-8). وتعود هذه الضرورات كما يرى كثير من أهل العلم إلى أمور خمسة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. ويكون حفظها بأمرين: أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها. الثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع. والمتأمل في هذه الأمور الخمسة يلحظ أنها قوام الحياة وعصبها، فالدين وأساسه العقيدة والعبادة لا غنى للفرد والجماعة عنه، فبه تتحقق العبودية لرب العالمين، ويسعد الأفراد والمجتمعات، بسبب الأمن النفسي والفكري، وبدونه يحل الشقاء بالإنسان دنيا وأخرى. وحفظ النفس يضمن بقاءها آمنة مطمئنة، لا تخشى عدواناً يقضي عليها، أو يفوت عليها شيئاً من مقوماتها أو أجزائها، ما دام صاحبها ملتزماً بعقد الإيمان أو عهد الأمان، ولم يحصل منه ما يوجب القصاص، أو الأذى البدني، وحفظ العقل يكون بالتزام منهج التفكير والتعليم المفيدين، والبعد عن المفسدات العقلية الحسية والمعنوية، ولأن العقل السليم هو الوسيلة في تحصيل المعرفة والوصول إلى الحق والحقيقة، فقد امتدح القرآن أصحاب هذه العقول، كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، ويتحسر أهل النار يوم القيامة بأنهم أهملوا عقولهم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، وحفظ العرض يكون بصونه عما يخدشه ويسيء سمعته، والعرض كما يقول ابن الأثير: موضع المدح والذم من الإنسان سواءً كان في نفسه أو سلفه، أو من يلزمه أمره «، وقد بالغ الإسلام في المحافظة على العرض، وعدم التعرض له بالإساءة وفي الحديث الشريف: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)، وحفظ المال وهو كل ما يملكه الفرد أو الجماعة من متاع أو عروض تجارة أو عقار أو نقود أو حيوان يكون بالمحافظة عليه من الضياع أو الإتلاف أو التبذير أو الاعتداء، وقد عُني الإسلام بالمال عناية شديدة، كسباً واستهلاكاً وإنفاقاً، وذلك مما يدل على أهميته، ووجوب المحافظة عليه. المحافظة على الضرورات الخمس يؤكد د. الطريقي أن هذه الضرورات الخمس هي قوام حياة الفرد والجماعة والدولة، وبقدر المحافظة عليها من كل من هؤلاء تكون السعادة والأمن والثواب الكبير، وبقدر التفريط فيها يكون الخوف والجوع، بل الاضطراب والشتات. وقد يُلحظ أن أكثر هذه الضرورات مراعى عند معظم الأمم والشعوب في الجملة، إذ تحرص على المحافظة على الأنفس والعقول، والأعراض، والأموال. بيد أنه يُلحظ هنا أمران: أحدهما: أن الدين هو أهون هذه الضرورات عند أكثر الشعوب غير الإسلامية حيث يعد في مرتبة التحسينات عند بعضهم وربما لا يكون له اعتبار عند آخرين. أما أهل الإسلام المستقيمون على الطريقة السليمة فإنه عندهم في المقام الأول. الأمر الثاني: أن كثيراً من الأمم والشعوب والدول تنظر إلى (العقل والمال والعرض) نظرة قاصرة، بحيث لا تجرم السكر، ولا الربا، ولا الزنا، حتى هانت عليهم عقولهم وأعراضهم وأموالهم. وربما سلك بعض المسلمين تلك المسائل من خلال قوانين الجريمة والعقاب، وذلك نذير خطر.. وقى الله المسلمين شره. خاتمة الشرائع يشير الدكتور عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين أستاذ الثقافة الإسلامية المشارك بكلية الشريعة بالأحساء إلى أن الشريعة الإسلامية جاءت بحماية الضروريات الخمس، وهو تأكيد إليه سعت الشرائع السماوية من مراعاة هذه الضروريات الأساسية للناس ونادت بها، وعملت على حمايتها وحفظها لتحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، إذ مصالحهم لا تتحقق إلا بحفظ الدِّين، وحفظ النَّفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض (النسل والنسب)، وحفظ المال، ولا شك أن شريعة الإسلام وهي خاتمة الشرائع قد راعتها على أتم وجوه الرعاية، فشرعت الأحكام لإيجادها، ودعت إلى المحافظة عليها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ،كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا..). والمتأمل في هذه العبارة من الخطبة تدل على العناية بهذه الضرورات الخمس لأهميتها وتعظيم العدوان على شيء منها، ولا ريب أن الأفراد والمجتمعات يتشاركون في تحقيق المحافظة عليها فيما بينهم، لأنه متى اختلَّ أمر من هذه الضرورات الخمس! اختلت حياة الناس، وزالَ الاستقرارُ، وعمَّت الفوضى !. فكل فرد وكل جماعة عليهم أن يحملوا مفهوم المسؤولية عن حماية هذه الضروريات التي هم مطالبون بها وفق ما يستطيعون.. يقول أبو حامد الغزالي: «مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دِينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومَالَهُم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يُفَوِّت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة». كما أبانت الشريعة الغراء أن المقصود من رعاية هذه الضروريات؛ المحافظة على نظام الأمة كما يقول الطاهر بن عاشور - رحمه الله -: «إذا استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع، استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه». المجتمع المتوافق ويؤكد د. الحسين أن المجتمع حينما ينشأ على رعاية الضروريات، لمجتمع خليق بأن يحقق مزية هذه الضروريات وتفعيل وجودها، فيكون بذلك مجتمعا متوافقا، ويصبح كالجسد الواحد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مَثَلُ المؤمنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ، إذا اشتَكَى منه عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمُ أخُو المُسلم لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، ومن كان في حَاجَةِ أخيه، كان اللهُ في حَاجَتِهِ، ومن فَرَّجَ عن مسلمِ كُربةً، فَرَّجَ اللهُ عنه بها كُربةً من كُرُبَاتِ يومِ القيامةِ، ومن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوَمَ القيامَةِ). وحذر المولى - عز وجل - من التنازع بين الجماعة وشق الصف الواحد الذي يؤول إلى الفشل وتسلط الأعداء، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (46) سورة الأنفال، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذَّ إلى النار) رواه أبو داود. ووصف ابن تيمية - رحمه الله - ضرورة الاجتماع والتعاون والتناصر بقوله: كل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع.