منذ أن كنا ندرس في مقاعد الطلب في مرحلة (البكالوريوس) ونحن لا نسأم من سماع عبارة (اختلف النحاة في هذه المسألة)، أو عبارة (يجوز الوجهان)، أو عبارة (يرى فريق هذا الحكم بينما يرى غيره الحكم الآخر)، وكنتُ وقتها أفكّر في الأمر جليّاً وأقول في نفسي: لماذا انقسم النحويون إلى بصريين وكوفيين في بادئ الأمر؟! ويبدو أن هذا الاختلاف ساق بعض اللغويين إلى الانتصاف في هذه المسألة؛ ولذلك أَلَّفَ أبو البركات كمال الدين عبدالرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري النحوي (ت577ه) كتاباً يجيب عن هذا التساؤل، وهو كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين) الذي حاول التوسط فيه بين المدرستين، والجمع بين الرأيين، وعرضهما للقارئ بأسلوب لا يجعل الأول محتجاً على الثاني، ولا الثاني مستدلاً على الأول، وكأنه يُلمِح إلى وجود ثمرة من هذا الخلاف. وقد نص الأنباري في مقدمة كتابه هذا على المنهج الذي حاول فيه الانتصاف في مسائل الخلاف، فقال: "وبعد؛ فإن جماعة من الفقهاء المتأدبين، والأدباء المتفقهين، المشتغلين علي بعلم العربية .. سألوني أن ألخّص لهم كتاباً لطيفاً، يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة؛ ليكون أول كتاب صُنّف في علم العربية على هذا الترتيب، وأُلّف على هذا الأسلوب؛ لأنه ترتيب لم يصنّف عليه أحد من السلف، ولا ألّف عليه أحد من الخلف. فتوخيت إجابتهم على وفق مسألتهم، وتحرّيت إسعافهم لتحقيق طلبتهم؛ وفتحت في ذلك الطرق، وذكرت من مذهب كل فريق ما اعتمد عليه أهل التحقيق، واعتمدت في النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة، أو البصرة على سبيل الإنصاف، لا التعصب والإسراف، مستجيراً بالله، مستخيراً له فيما قصدت إليه؛ فالله تعالى ينفع به؛ إنه قريب مجيب". وأعود هنا مرة أخرى لتساؤلي الذي يلحّ علي دائماً: لماذا اختلف النحاة؟! وفيمَ اختلافهم؟! ولأجيب عن هذا التساؤل يمكن أن أحيل على كتابٍ نحويٍّ معاصر بعنوان (ثمرة الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين) الذي أشار إلى تاريخ نشأة الخلاف بين سيبويه والكسائي في القرن الثاني الهجري، وأن من أهم أسباب هذا الخلاف: طبيعة الناس، وطرائقهم في التفكير، وقدراتهم في الاستيعاب، وما جُبِل عليه الإنسان من حب الغلبة، والظهور أمام الناس بشكل المنتصر، وكذلك التعصب للرأي، واختلاف المنهج، وتفوق بعض المتخالفين ونباهتهم، إضافة إلى طواعية اللغة ومرونتها، واختلاف اللهجات والبيئات، وغيرها من الأسباب. ولقد عرض الكتاب – كما هو واضح من عنوانه – لثمرة هذا الخلاف، وصنّفها إلى ثمار سيئة، وثمار طيبة، وذكر من الثمار السيئة: تغيير الروايات، وكثرة الآراء، وكثرة التقدير والتخريج، والتوسع في الإجازة، والمبالغة في الصناعة، وتضخم كتب اللغة، وصعوبة النحو، وشيوع البلبلة، وعدم الأخذ بالقراءات، والتحامل على فريق دون آخر، وتغيير بعض المصطلحات، وتعدد قول علماء اللغة، كما تطرّق الكتاب لبعض الثمار الطيبة وراء هذا الخلاف، كما في اكتمال صرح النحو والصرف، وتخريج نحاة آخرين، وتيسير النحو، وتوسيع القواعد، وزيادة بعض التراكيب، وزيادة بعض الأدوات، وزيادة وجوه إعرابية، وتدريب الطلاب، وغيرها. د. فهد إبراهيم البكر