"كاروشي" في الثقافة اليابانية تعني الموت جراء الإرهاق في العمل، وهو الثمن الأقصى الذي يمكن أن يدفعه الإنسان نتيجة إدمانه للعمل وانغماسه فيه على حساب صحته وعائلته وكل جميل في حياته. وقد تم التعرف على هذه الظاهرة لأول مرة في أواخر الثمانينات بعد سلسلة من حالات الوفاة بين العمال اليابانيين الذين لقوا حتفهم نتيجة لأزمات قلبية وسكتات دماغية رغم صغر سنهم، حيث تم الربط لاحقاً بين هذه الوفيات وثقافة الانغماس في العمل. اليوم نجد أن ظاهرة "كاروشي" لم تعد ظاهرة خاصة باليابانيين، بل أصبحت ظاهرة عالمية، إذ تدفع بعض قطاعات الأعمال موظفيها إلى أقصى حدودهم دون مراعاة لتأثير ذلك على صحتهم، مع تعزيز فكرة خاطئة بأن الساعات الطويلة والتفاني المفرط في العمل يعكسان الولاء والجدارة، مما يخلق دوامة لا تنتهي من الضغط والاحتراق الوظيفي، الذي عرفته منظمة الصحة العالمية بأنه "ظاهرة مهنية" تحدث عندما لا تتم إدارة الإجهاد المزمن في مكان العمل بنجاح وفاعلية. تأمل حال الكادحين اليوم حول العالم لتدرك إلى أين يمكن أن تقودنا هذه العجلة التي يدفعها الجميع كل صباح، في جري لا يعترف بالتوقف، في حالة انهماك نحو إنجاز لا يعرف أحد على وجه التحديد نهايته، أو إلى متى سيستمر؟.. فقط ساعات من العبء المنهك بلا قدرة على اللحاق بأهداف العمل أو التقدير على إنجازها أو على المساواة بين الزملاء في المرتبة وفي المكافآت، في بيئة قد لا يستطيع فيها حتى المديرون مكافأة الموظفين أو معاقبتهم. القليل من الرضا يقابله الآلاف المؤلفة من "المحترقين" الذين وقعوا عقود عبوديتهم في لحظة حلم، ولم يعد بإمكانهم الخروج من هذه اللعبة دون مقابل؛ ليجدوا أنفسهم يتسولون مؤسساتهم لتحترم الحدود الإنسانية الدنيا وتمنحهم فرصة خلق التوازن بين عملهم وحياتهم الشخصية، بين مهامهم الوظيفية وغاية وجودهم في هذه الحياة. لم يعد بالإمكان تجاهل الآثار السلبية للضغوط الوظيفية التي تسلب الفرد طاقته وحيويته، منذ ساعات الزحام الأولى حتى ساعات متأخرة من نهار محمل بالقلق والتوتر والترقب لمفاجآت الأنظمة والأمزجة المتقلبة بفعل الركض الذي يعيشه الجميع دون التفات إلى بديهيات الوجود الإنساني. مرت بنا تجربة قاسية خلال أزمة كورونا وجربنا التعطل التام كما جربنا العمل عن بعد وتسخير وسائل التواصل الحديثة للقيام بالأعمال وتوفير الوقت والجهد، لكن للأسف خرجنا من التجربة بساعات عمل أطول ونهم أكبر لمزيد من الإحراق والاحتراق، دون أن ينعكس ذلك على ثقافة العمل لدينا نحو ثقافة جديدة تؤمن بارتباط جودة الحياة وبيئة العمل بكفاءة الأداء والإنتاج. ومع الحديث هذه الأيام عن تغيير ساعات العمل والإجازات ومدى ارتباط ذلك بمعدل الإنتاجية والولاء الوظيفي، نرجو ألا يُنظر إلى الموظف كأداة قدرها أن تعمل أو أن تموت ليأتي عامل جديد ويكمل دوره في خط الإنتاج، دون أي اعتبار لتأثير ذلك على جودة الحياة للعامل وكفاءة الإنتاج، اللتين هما الهدف النهائي لكل هذه الدوامة، يجب أن يكون هدفنا خلق بيئات عمل وثقافة عمل جديدة تحتفي بالإنجاز وتكون دافعًا للابتكار والتطوير الذي يسمح بتحقيق التوازن الصحيح بين العمل والحياة.