تعود كلمة (التشخيص) في المعاجم اللغوية إلى مادة (شخص)، وقد أوردها الخليل بن أحمد الفراهيدي (175ه) في معجمه (كتاب العين) حيث قال: «شخص: الشَّخْصُ: سوادُ الإنسان إذا رأيته من بعيد، وكلّ شيءٍ رأيت جُسمانَه فقد رأيت شَخصَه، وجَمعُه: الشُّخوص، والأشخاص. والشُّخوص: السير من بَلدٍ إلى بلد، وقد شخص يَشخَصُ شُخُوصاً، وأشخصته أنا. وشَخَص الجُرح: وَرِمَ. وشَخَص ببصره إلى السماء: ارتفع. وشَخَصتِ الكلمة في الفم. إذا لم يقدر على خفض صوته بها. والشَّخِيصُ: العظيم الشخص، بَيّن الشخاصة. وأَشخصتُ هذا على هذا إذا أعليته عليه». والتشخيص عند البلاغيين ألمح إليه شيخهم عبد القاهر الجرجاني (471ه) قديماً، فإنه لما أراد الحديث عن الاستعارة المفيدة في كتابه (أسرار البلاغة) قال: «وإذا تأملت أقسام الصنعة التي بها يكون الكلام في حد البلاغة، ومعها يستحق وصف البراعة، وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها، وتقصر عن أن تنازعها مداها، وصادفتها نجوماً هي بدرها، وروضاً هي زهرها، وعرائس ما لم تعرها حليها فهي عواطل، وكواعب ما لم تحسنها، فليس لها في الحسن حظ كامل، فإنك لترى بها الجماد حياً ناطقاً، والأعجم فصيحاً، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية..». هذا النص يمكن أن يدلنا على (التشخيص) الذي يجعل الجامد متحركاً، والصامت ناطقاً، ويتعامل مع غير المحسوس كما لو كان إنساناً، ومن هنا يلوح لنا مفهوم (الأنسنة) في اشتراكها مع المفهوم البلاغي الذي يؤسس له الجرجاني، فهي تماماً ما كان يفعله الشعراء قديماً في حديثهم للحيوان، أو الطير، أو الصحراء، أو الأطلال، أو الجبال، أو البكاء على الأطلال، والحديث إليها، كما فعل امرؤ القيس في قوله: «ألا عِمْ صباحاً أيها الطلل البالي»، وعلى نحو قول عنترة لحصانه: «وشكا إلي بعبرةٍ وتحمحم»، وقول ابن خفاجة الأندلسي (533ه) للجبل: « وَأَرعَنَ طَمّاحِ الذُؤابَةِ باذِخٍ»، وقوله فيه أيضاً: «طوال الليالي مفكر في العواقب»، فتشبيه الحيوان، أو الجبل بالإنسان هو تشخيص، والإيغال في وصف المشاعر المشبهة هو (أنسنة). إن التشخيص عملية جمالية معروفة منذ القديم، تتجلى من خلاله قوة الوجدان الإنساني، وتميز العاطفة وارتقاؤها إلى حيث الخيال الأرحب، فهو ظاهرة أدبية ترويها البلاغة بمائها، ويسقيها النقد بعذوبته، عصبه الصورة، وترابه البيان، ذو مشارب عدة تمتح من إحساس الإنسان وشعوره؛ ولهذا قال الأديب الألماني (يوهان غوته 1832م): «إن فن التشخيص هو الفن الوحيد الصادق الذي ينبثق من الشعور الداخلي الفردي الأصيل المستقل»، وأطلق عليه الأديب الفرنسي (شارل بودلير 1821م) مصطلح (التجانس الكوني)، ووصف الأديب المصري عباس محمود العقاد (1964م) التشخيص بأنه: تلك الملَكة التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً، أو من دقة الشعور حيناً آخر. وبعيداً عن المصطلحات المتاخمة، أو المشابهة، أو ذات الإشكال، فإننا نتوقف عند التشخيص في العرف الأدبي لنشير إلى أنه ما يقوم به الأديب - شاعراً كان أم ناثراً - من الحديث إلى غير الإنسان، ومحاولة إلباسه لباساً عاقلاً، والتعامل معه على أنه إنسان، كما في الأمثلة التي ألمحنا إليها آنفاً، وعندئذ كلما أوغل الأديب في (تشخيص) ما بين الإنسان وغير الإنسان صار إلى (الأنسنة) أقرب إليها من التشخيص، ومن هنا كانت الأنسنة في نظري أرفع درجات التشخيص؛ ذلك أنها تتوغل في المشاعر، وتغوص في العواطف، وتحاول أن تجعل كل شيء أقرب إلى إحساس الإنسان وتصوراته.