تمتازُ اللغة العربية بكثرة المترادفات الدالّة على المعنى الواحد، إلا أنّ لكلّ لفظة ما تتميز به في دلالتها عن غيرها؛ لتعبّر عن المعنى المراد خير تعبير؛ فلا يمكن لغيرها أن ينوب منابها في سياقها؛ فبعض الألفاظ لها دلالة معنويّة، وبعضها لها دلالة ماديّة، وبعضها يدلّ على الاثنتين معًا. درج مصطلح (الأنسنة) و(الإنسانوية) في كتب الفلسفة والنقد, وهما لفظتان مشتقتان من لفظة (إنسان). وقيل عن (الإنسانوية) كلام كثير، مفاده: إنها كمفهوم فلسفي تركز على الإنسان كمحور لتفسير الكون بأسره. وليس هذا مجال حديثنا, وإنما تعرضنا لها من الباب الذي ذكره الدكتور حسن ناظم في كتابه: (أنسنة الشعر) عندما قال عنها: «هي إضفاء بعض الصفات الخاصة بالإنسان على بعض العوالم المطلقة, أو المجردة، مثل الأخلاق, والشمائل». سأقف عند هذا القول ليكون انطلاقة البدء في تحرير المصطلح من المعاني السابقة؛ ليحلّ محله المصطلح الجديد الذي يليق بهذا الفن البلاغي (التشخيص)؛ فأنسنة الأدب شعرًا ونثرًا لا تعني بالضرورة الاتفاق مع الفكر الذي تضمنته لفظة (الإنسانوية) في تاريخ نشأتها الذي ينزع إلى العقلنة. تقول الدكتورة هيفاء الحمدان في كتابها (أنسنة الشوارع): «إنّ البعد الفني للمصطلح تتحرر فيه (الأنسنة) من رؤية التيارات الفكرية, وأطرها الفلسفية؛ لتصبح تقنية تصويرية، تقوم على إضفاء صفات إنسانية على الأشياء على سبيل التخييل, شأنها في ذلك شأن التشخيص, أو التجسيد, أو تراسل الحواس.. وذلك لا علاقة له البتة بما يرد في نظريات الإنسانوية الفلسفية, وتحكيم العقل الإنساني في قضايا الكون والفكر». أوافق الدكتورة فيما ذهبت إليه, وأضيف: إنّ مصطلح (الأنسنة) لا بد أن يحل محل مصطلح (التشخيص) في البلاغة العربية من خلال هذه الفروق المعجمية الدقيقة: التشخيص لغة: جاء في لسان العرب: الشّخص: سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد. والشخص كلّ جسم له ارتفاع وظهور. والمراد به إثبات الذات, فاستُعير له لفظ شخص. ويقول ابن فارس: (الشين والخاء والصاد) أصل يدل على ارتفاع في شيء. من ذلك الشخص: وهو سواد الإنسان إذا سما لك من بعد. الأنسنة لغة: الأنسنة لغة مأخوذة من لفظة إنسان. يقول ابن منظور: الإنس: الإنسان, وهو معروف, يُجمع على ناس. والتشخيص في مفهومة الدارج يعني: إعطاء خاصية متعلقة بالكائنات الحية من إنسان وغيره للجماد، كقولنا: تنفس الصبح. فالصبح ليس كائنًا حيًّا له رئتان يتنفس بهما, لكن القرآن الكريم استخدم هذا التعبير المجازي في قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ * الصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ». يقول أبو السعود في تفسيره لهذه الآية: «إنَّ الصبحَ إذا أقبلَ يقبلُ بإقباله رَوحٌ ونسيمٌ فجعلَ ذلكَ نفساً لَه مجازاً فقيلَ تنفَّسَ الصبحُ». إنّ إعطاء كلمة (فعل أو صفة) خاصة بالإنسان لغير الإنسان من حيوان ونبات وجماد وحواس وردت كثيرًا في القرآن الكريم, وكلام العرب, الذي يحتل المجاز نسبة كبيرة منه. فمجازيّة اللغة ليست أمرًا مستحدثًا, بل إنّ المجاز عنصر حي في أصل كلام العرب. فالخلاف ليس على مجازيّة الألفاظ, وإنما على مصطلح (التشخيص) الذي يدل على سواد الكائن الحي, وجسمه, وارتفاعه إذا تمثل لنا من بعيد.. فأيهما أولى بالاستعارات والتشبيهات التي تجنح إلى تحويل فعل الجمادات والمعنويات إلى فعل الإنسان من شعور وتنفس, وحزن, وبكاء, وأكل, وشرب، وغيرها من الصفات التي لا يمكن أن تظهر لنا من مجرد لفظة (تشخيص)، الأنسنة أم التشخيص؟ من خلال زحزحة مصطلح (الأنسنة) ليحل محل مصطلح (التشخيص) بناء على تعريف لفظتي: (إنسان, وشخص) في المعاجم العربية. من هنا أرى ضرورة إعادة النظر في مصطلح (التشخيص) المستخدم في البلاغة؛ لنعيد للعربية أهم مزيّة تميزها عن باقي اللغات، وهي: (الدقة في استخدام اللفظ للمعنى المراد). - د. زكيّة بنت محمّد العتيبي