لقد أضر الكلاميون بالبلاغة حين أقحموها في الجدل والمنطق، وصرفوا نظرهم عن كشف أسرار الجمال البياني للمتعة. وأضر الراصدون لعلوم البلاغة حين انساقوا وراء ما يمكن تسميته بالرياضة الذهنية والاغراب، كما أضر المدرسيون بالبلاغة حين أثقلوها بقيود الدرس المؤطر، وهذا الميل الذي جعل الجانب الجمالي كالمعلق منطق البلاغة وعقلنها، وربطها بالأمثلة الجافة والجدل السوفسطائي العقيم، وأغرق في التقسيم والتفريع في كل علوم البلاغة، حتى لأكاد أتصور أن لكل مثل قاعدة ولكل بيت مصطلحا، واقرؤوا ان شئتم عمدة ابن رشيق )ت 463( أو الطراز للعلوي )ت 749(. واستمعوا ان شئتم الى أساتذة البلاغة من قبل ومن بعد، فإنكم ستستمعون الى محفوظات متوارثة. إننا حين نطالب بتحرف جديد ينقذ البلاغة، ويحقق تفعيلها لا نرغب الفرار من التراث ولا النيل منه، ومن قرأنا بهذا المفهوم فقد ظلم نفسه بافترائه علينا، إننا نريد استحضار التراث العظيم بكل المقاييس لمواجهة المستجد والتفاعل معه والاشتغال به، إن الالتفاف بالتراث غير الالتفاف حوله. وحب التراث غير الاكتفاء به، واشكاليتنا تقوم على الانقطاع له أو الانقطاع عنه، أو على تقديسه، أو نفيه، وعلى كل المستويات وفي كل الاتجاهات ليس هناك وعي إلا في القليل النادر، وهذا الذي أضر بالتراث، فالمقدسون له جمدوه وجمدوا معه، والمنتهكون له ذوبوه وذابت خصوصيتهم، ونحن بحاجة الى من يرجل بالتراث ولا يرحل اليه يفعله ولا يفعل من خلاله. والذين لا يملكون غير الاجترار يتهمون المجددين بالتنكر لتراثهم، وأمجاد أمتهم، والذين لا يملكون شيئا من التراث يتهمون الواعي للتراث والمعاصرة بالجمود، وهكذا ضاع المقتدرون الواعون بين جامد يكرر القديم ومقلد للطارئ لا يعرف شيئا من القديم. والتجديد الأصيل ينطلق من التراث،ومن ليس له قديم فليس له جديد. إن المرافعة ضد المنهج لا تعني النيل من ذات البلاغة، كما لا تعني النيل من التراث ورجالاته بسوء، كما أنها لا تعني النيل لذات النيل من المشتغلين بالبلاغة، إنه خدمة للبلاغة وحماية لتراث الأمة، وليس فيما أشرت اليه بدع ولا تحامل، فكم من الأدباء والعلماء من أنحى باللائمة على البلاغيين ومناهجهم وأسلوب أدائهم. لقد أشار شوقي ضيف وهو يرصد تاريخ البلاغة وتطورها الى مراحل أربع: مرحلة النشوء. مرحلة النمو. مرحلة الازدهار. مرحلة الذبول. وسواء اتفقنا معه في هذا التقسيم أو اختلفنا، وسواء اعتبرنا مرحلة النشوء مرحلة انبثاق ، أو استلاب، مرحلة فن، أو فكر، فإننا نقف عند مرحلة «الذبول» وهي المرحلة الرابعة والأخيرة. لقد أدرك واحد من أهم مؤرخي التراث ودارسيه ومنصفيه ما تمر به البلاغة العربية أو قل ما استقرت عليه وهو «الذبول». وإذ نختلف حول ضعف هذه المرحلة فإن اختلافنا لن يكون حول نفي الذبول أو اثباته، وإنما هو حول حجمه وأسلوب معالجته وأسباب ظهوره. ومن قبل «شوقي ضيف» جاءت محاولات جادة لتجديد البلاغة العربية، كان على رأس المجددين «أمين الخولي» واندس معه ومن بعده مفسدون يتخذون التغيير منفذاً لهدم المشروع وليس لاصلاحه. والناصحون لتراثهم لا يشكون ان البلاغة تمر بوضع لافت للنظر، وضع لا يحتمل المزيد، ولا يحتمل الصبر. ومن ثم يحتاج الى تصرف واع ومنظم ليقيل عثرة البلاغة، ويلحقها بركب المعارف وعلوم الآلة، فهي ذاتياً قادرة على تفعيل نفسها لو أتيح لها أن تقع في أيد قادرة ونفوس واثقة. وكم من الانتفاضات الراشدة التي مرت بها البلاغة على أيد أمينة ناصحة، ومن منا لا يعرف محاولات الخولي، وتطبيقات محمد عبدالمطلب وأبي موسى وسعد أبوالرضا ومغامرات آخرين لا يقلون عن سلفهم، هذه الاضاءات لا تأخذ طريقها الى الدرس البلاغي داخل أروقة الجامعات، وإنما تكون عرضا زائداً لا يلتفت اليه. لقد دخلت البلاغة في عصر الذبول مرحلة الملخصات والشروح والتعقيد والجمود، مضيفاً الرازي اليها من فلسفته ومنطقه كما يقول شوقي ضيف في حين أمعن السكاكي في الاجمال والتعقيد، ويأتي القزويني ليلخص الملخصات على شاكلة أخصر المختصرات. يقول شوقي ضيف في أعقاب هذا الرصد التاريخي: «ويذيع تلخيصه يعني القزويني وتكثر الشروح عليه مليئة بأعشاب ضارة من الفلسفة والمنطق والكلام والأصول والنحو ومن مناقشات لفظية حتى لتختنق البلاغة اختناقاً الى أن يقول: حتى انتهيا الى الجمود والتعقيد والجفاف والتكرار الممل» المقدمة. ومع كل هذه الاشارات والاستغاثات من عدد من الأدباء والنقاد تظل البلاغة كما هي، وإن بدت بعض المحاولات، التي لم تتجاوز مرحلة التنظير والأماني. والمحاولات بقيت متداولة بين النخبة، ولم تدخل قاعات التدريس، بحيث استمرت الملخصات والشروح هي المواد والمناهج المهيمنة، ولم يجرؤ أحد على تجاوز تلك الملخصات والشروح. فما كنا نتلقاه قبل أربعين عاما هو ما يتلقاه الطلبة اليوم، الكتاب هو الكتاب والمثال هو المثال، والقاعدة هي القاعدة، والاجراء هو الاجراء، لا جديد ولا تجديد، وكم أتمنى لو امتلكنا بعض الجرأة، وأجرينا استفتاء يشمل الدارسين والمتخرجين لتحديد مواطن الضعف وأشكال التطلعات، وتحديد قسمات البلاغة في مرايا الآخرين، ان هذا الفعل الحضاري سيكشف عن أخطاء متجذرة ليس في عالم البلاغة وحسب، وإنما في مجالات كثيرة، لقد كتب الفقهاء في كافة النوازل ما يشفي ويكفي، ولكن الطلبة مأطورون على «زاد المستقنع» يتخرجون من الكليات وهم أبعد ما يكونون عن فقه النوازل، ولك أن تقول مثل ذلك عن علوم كثيرة ظلت كما كتبها علماء القرن الثامن أو التاسع، ونحن بطوعنا واختيارنا نجر أنفسنا لنطوح بها بعيدا عن الحاضر. إننا مضطرون للمرافعة ضد البلاغيين الذين جمدوها وقدسوها، واعتبروا محاولة التجديد أو الاضافة من المنكرات التي لا تقبل، ومن المساس الذي لا يباح، ومن التآمر الذي لا يجوز السكوت عنه. إننا لا ننكر التآمر على التراث والتشكيك في جدواه ولا ننكر الاندفاع صوب المستجدات الغربية ببلاهة وتبعية. ولا نجهل زمن العققة والمتنكرين. ولكن ذلك كله لا يمنع من التحرف لاقالة عثرة البلاغة والانطلاق بها في آفاق التجديد والابتكار، فهل يمتلك المتخصصون الاستجابة الواعية المتزنة لهذه الدعوة الصادقة المخلصة المحبة للتراث والمقدرة للتراثيين؟ لقد طرح في الساحة النقدية مشروع أسلوبي يلتقي مع البلاغة العربية من وجوه كثيرة، وقد تكون بعض آلياته من آليات البلاغة أو قريبة منها، وهذا المشروع يمكن أن يكون منطلقا للبلاغيين المتهيبين، ولا أشك ان محاولات بعض البلاغيين أمثال «عائشة عبدالرحمن» إرهاص للتخلص من التجزيئية لو أن مثل هذه المحاولات أخذت طريقها الى قاعة الدرس مخلفة النمطية وراء ظهرها. ومحاولات زوجها وجماعة الأمناء في طرح منهج بلاغي جديد، ولم تجد هذه المحاولات من يرحل بها من التطلع الى الفعل. إن البلاغة العربية بذرة صالحة لا ينقصها إلا الأرض الطيبة والماء الوفير، لتتصدع فجاجها عن آليات تشد أزر النقد العربي أمام تيار المستجدات النقدية التي استفاضت واتخذها المقلدون دولة بينهم، والتراث البلاغي مليء بالكنوز، واستعادته أفضل من العودة اليه، واستثماره أفضل من الاغراق فيه، وثورة المعلومات والاتصالات فرضت على القادرين السعي الجاد لتشكل حضاري، يحتفظ بالصبغة الاسلامية، ويتسع للمستجدات، متفاعلاً معها لا مفعولا به. والتاريخ الحضاري يبعث على الأمل والتفاؤل، والخلف ليسوا بأقل قدرة من السلف، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«فلرب مُبلغ أوعى من سامع». لقد حظيت البلاغة العربية برجالات أمضهم ما تعانيه البلاغة من جمود، وذبول، وكانت محاولاتهم استثنائية، ولكن أحداً من أساتذة البلاغة وعلمائها لم ينهضوا لاستثمار هذه المحاولات، ومن ثم أهدرت تلك الجهود، كما أهدر من قبل أسلوب الجاحظ، وجديد الجرجاني، فهل نتمكن من تخطي واقع البلاغة العربية مستفيدين من أطروحات الأسلوبيين الحديثة غير مقلدين لها ولا رافضين لمنجزها. ذلك ما كنا نبغي.