كل واحد منا يحيط به مجموعة من الأصدقاء والرفقاء والأحبة يجتهد في ودهم ويحرص على الجلوس معهم والأنس بحديثهم ومسامرتهم، وهذه الاجتماعات واللقاءات التي قد تكون شبه يومية أو أسبوعية مشافهة أو مقابلة أو عن طريق الواتس لا تخلو أن يتخللها خطأ أو زلل من أحدهم على الآخر وذلك حتمي لا جدال فيه ولا مراء فهي من لوازم الصحبة ومقتضيات المحبة بين اثنين يجمعهم ود وأنس دائم وقائم وتبقى مسألة التعامل مع تلكم الهفوة أو الزلة او الخطأ والتي هي أشبه بردة الفعل هي مدار الحديث وعنوان التعامل؛ فهناك من يخاصم ويهجر وهناك من يتجاوز ويغفر وشتان بين الفريقين ولو تأملنا في أولئك الصحب والأحبة وجدنا أن لأحدهم من الفضائل أجملها، وله من الأخلاقِ أكملها، بل قد يكون معروفا بخصال الخير والإحسان، وموسوماً بصفات البر والايمان والنقاء، تاريخه يشهد فيه الجميع بالثناء الجميل، ومواقفه يعجز اللسان عن الشكر الجزيل، لكنه في يوم من الأيام زلَّ زلة أو أخطأ في حقك بكلمة أو عبارة مقصودة أو غير مقصودة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة وقد تكون خطيرة وقد تكون نوعاً ما أليمة، هل يقال عنه كما يقول البعض(غلطة الشاطر بعشرة) فتصبح غلطته ليس لها مغفرة وخطأه ليس له كفارة، أو نقول: إن سيئته مغمورة في بحور حسناته، كما قال القَائل: وإِذا الحبيبُ أَتَى بذنبٍ واحدٍ جَاءَت محاسنه بِأَلفِ شَفيعٍ تأمل معي كيف عامل أهل الفضل أهل الفضل فالله سبحانه عامل موسى عليه السلام بعد أن رمى الألواح التي فيها كلام الله على الأرض حتى تكسرت أشلاء وأخذ برأس أخيه يجره ولطم وجه ملك الموت ففقأ عينيه وجادل في شأن فرض الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته فكان يقول له في كل مرة: ارجع إلى ربك، ومع ذلك لم يعاتبه ربه ولم تسقط منزلته بل لا زال وجيهاً يحبه ربه ويجيبه، أتعلمون لماذا؟ لأنَّ لموسى عليه السلام مقامات عظيمة، قامها في وجه فرعون، أعظم أعداءِ الله تعالى، وأعتى من عرفته البشرية، الذي ادعى الألوهية والربوبية، فجادله موسى وناظره، حتى لما قامت عليه الحجة ولا زال جاحداً مستكبراً، (قال لقدْ عَلِمْتَ ما أَنزَلَ هؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)، أي: هَالِكاً، ثُمَّ قَامَ مَقاماتٍ جَليلةً أَمامَ بَني إسرائيلَ بَعدَ هَلاكِ فِرعونَ، وصَبرَ على أَذاهُم وكَفرِهم واستِهزائهم وعِنادِهم، حَتى استَحقَّ وِسامَ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصَاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً). رسولنا وقدوتنا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلمَ كَيفَ تَعامل مع زلة من له مودة وفضل وسابق خير، لما كتب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم بعزم النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَمَ عَلى غَزوِ مَكةَ، قَالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَمَ: (يا حَاطبُ، مَا هَذا؟)، قال: يا رسولَ الله، لا تَعْجَلْ عليَّ، أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا نِفَاقًا، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ، وكُنتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قريش، ولم أكن من أَنْفُسِهِا، وكان مَنْ معكَ من المهاجرين لهم قَرَابَاتٌ بمكةَ، يَحْمُونَ بها أهليهم وأموالَهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النَّسَبِ فيهم أن أَتَّخِذَ عندهم يدًا، يَحْمُونَ بها قَرَابَتِي، فقُلتُ: أكتُبُ كتابًا لا يَضُرُّ اللهَ ولا رسولَه، وَمَا فَعلتُهُ كُفرًا ولا ارتدادًا، ولا رِضًا بالكُفرِ بَعدَ الإسلامِ، فَقَالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ: (لقد صَدَقَكُمْ)، قَالَ عُمرُ: يَا رسولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هذا المنافقِ، فَأَخبرَه رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ بِفَضلِ حَاطبٍ، فَقَالَ: (إنه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لعلَّ اللهَ أن يكون قد اطَّلَعَ عَلى أَهلِ بَدرٍ، فَقَالَ: اعملوا ما شئتُم، فقد غَفرتُ لَكم)، وَصَدقَ زُفَرُ بنَ الحَارثِ: أَيَذهبُ يَومٌ وَاحدٌ إِنْ أَسأتُهُ بِصَالحِ أَيامي وحُسْنِ بَلائيا؟ والأمثلة والشواهد كثيرة في أن من مقتضيات الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة وعظيم رابط المحبة والمودة ما يتجاوز عن الزلات في حق الأصحاب والأحباب وينبغي أن يفرق بين من أوردها أو من وقعت منه وقد أراد بها التشفي والتندر والانتقام وبين من جاءت في ثنايا حديثة عابرة سائرة لم يقصد به أذية أو سبابا أو فحشاً، وتأمل قبل أن تهجر أو تخاصم أو تخطئ في الرد عليه ما يملكه ذاك الإنسان من بحر للحسنات وسابق للفضائل والمكرمات فيما بينكم حتى تدوم الألفة ويزول كل خطأ أو ردة فعل غير سوية قد تخرج منك.