أشد الأضرار المهددة والمفسدة للعقل والمقيدة للتفكير حينما يتم برمجته وإقناعه بثقافة تاريخية متجذرة تتناقلها الأجيال عبر أنساق ثقافية تحولها وكأنها أصول وثوابت -وكأنها من أركان الإسلام- تجعل من يحيد عنها متمرداً على الواقع بل وكأنه اقترف جرماً مخالفاً للأعراف أو حتى للدين والأخلاق! وهذا ما حدث للمرأة على مر العصور، فرغم ارتفاع الوعي في زماننا الحاضر لا تزال بعض النساء للأسف ضحية خطاب وثقافة ذكورية -بأحكام مطلقة- تهمش عقل المرأة وتنتقصه وتجعل العاطفة والمشاعر المنفلتة أو حتى القرارات الخاطئة المتسرعة هي الصفة المرتبطة والملازمة لها فقط دون الرجل، وتنتقد من يشاورهم ويأخذ برأيهم كقول أحدهم في لهجتنا الدارجة: (تشاور حرمة)! والكثير من مثل هذه العبارات التي نسمعها باستمرار رغم ارتفاع الوعي كما هو مُلاحظ، ولكن تظل هذه الأدلجة حاضرة ومسيطرة على بعض العقول خصوصاً أولئك المضطربين من المحسوبين على الرجولة ومعشر الرجال، والعجيب أن البعض من النساء أنفسهن للأسف تبرمجوا على أن عقولهم قاصرة وغير قادرة على الإدراك فعطلوها وجعلوا عاطفتهم هي من يوجههم وأنها سبب رئيس في تعثرهم وفشلهم في الحياة! فربطن عدم التوفيق بذلك وكأنهن لا يملكن التفكير والرأي والقرار في شؤونهن فجنوا على أنفسهم وبنات جنسهم! وفي سياق هذا الموضوع المهم لا نغفل هنا عن دور الإعلام بشقيه (التقليدي والجديد) بكل وسائله الذي طبع مثل هذه التصورات في الأذهان، فمن خلال تتبعي الشخصي لمثل هذا الفكر وتأثيره فقد لاحظت بعض المسلسلات التلفزيونية تعزز مثل هذا الفكر لهذا الخطاب الثقافي كربطهم الأنوثة بالدموع والبكاء وأن هوان المرأة وضعفها هو الطبيعي والقاعدة التي يجب أن لا تحيد عنها قيد أنملة! إضافة لذلك لاحظت وصمها بنقص العقل في عدة مشاهد كقول إحداهن في أحد المشاهد وهي تتحدث مع ابنها عن زوجته باللهجة العامية: (يا ولدي كبر عقلك أنت الرجال وهي المرة عقلها ناقص..)؟!، ورسخوا في ذهن المتلقي وفي العقل الجمعي بأن الثقافة العربية السائدة هي أن المرأة ليس لها رأي ولا يحق لها التحدث والتحاور أو الاعتراض على رأي الرجل، ويتضح ذلك في بعض المشاهد والتي منها ندم إحداهن وحسرتها على نقاشها الحاد مع زوجها واختلافها معه بل تجاوز ذلك إلى دعائها على نفسها بالمرض وقطع اللسان! كل ما سبق من أمثلة على تهميش المرأة جاءت بعكس ما قرأناه وسمعناه على مر التاريخ وما شهدناه في زماننا الحاضر عن الكثير من النساء العظيمات ذوات العقل والمنطق السديد على مختلف أعراقهن وعقائدهن، بل جاءت بعكس ما أمر به ديننا الحنيف وشريعتنا السمحة وجميع الشرائع السماوية -في مجتمع الأنبياء والرسل عليهم السلام- بتكريمها للمرأة من خلال ذكر بعض النماذج، فالقرآن الكريم في سورة النمل عرض لنا نموذجاً لقصة بلقيس ملكة سبأ برجاحة عقلها وحكمتها وضبطها للنفس وحسن إدارتها وتقديرها للموقف برأيها الصائب خلاف قومها، وفي سورة المجادلة حين ذهبت المجادِلة غاضبة للرسول صلى الله عليه وسلم تشتكي خلافها مع زوجها فاستقبلها صلى الله عليه وسلم بكل هدوء واستمع لها وحاورها، ونموذج آخر في سورة التحريم حين سألته إحدى زوجاته وحاورته -حينما أسرّ حديثاً لبعض زوجاته الأخريات– بقولها: (من أنبأك هذا..) فرغم أنها في موقف محرج وضعيف لكن الرسول صلى الله عليه وسلم حاورها وأجابها ووضح لها الأمر بكل هدوء، ولا ننسى كذلك مريم عليها السلام وخديجة بنت خويلد وعائشة وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنهن أجمعين وآسية امرأة فرعون.. وكما جاء في السيرة من أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي زوجته أم سلمة رضي الله عنها عندما استشارها في أمر ما أثناء صلح الحديبية، فمثل هذه النماذج القرآنية الراقية ليست إلا إشارات وتوجيهات تدل على أن الإسلام كرم المرأة وشدد على أحقيتها بمعرفة حقوقها من خلال السؤال والاستفسار ومحاورتها والإسرار لها والاستئناس برأيها ومشورتها، ودليل إشادة وتقدير لقدراتها العقلية وتفوقها على كثير من الرجال، وحسن رأيها وحكمتها في المواقف والأحداث بعكس بعض الآراء والاجتهادات الفقهية الموروثة التي أساءت لها وانتقصت منها. ختاماً، وفي هذا الصدد لا ننسى الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بن فيصل آل سعود وهي الأخت الكبرى للمؤسس الملك عبدالعزيز -رحمهم الله جميعاً– والتي كانت امرأة تتمتع برجاحة العقل وذات حكمة ورأي سديد وعرفت بحسن المشورة والتصرف، حيث كان يرجع لها المؤسس ويأخذ برأيها، وكثيراً ما كان يعتزي وينتخي باسمها (أخو نورة)، وكان لها دور إيجابي ومؤثر في شحذ همته في كثير من المواقف والأحداث.