لطالما كان القرآن محط رحال الدارسين، بآياته ينيخون عقولهم، وبمفرداته يعملون أفهامها، منهم الفقيه الذي شغله الحكم الشرعي من النص، ومنهم المقرئ الذي شغله صحة التجويد، ومنهم النحوي الذي شغلته الجمل استنباطاً وقياساً واستدلالاً، ومنهم البلاغي الذي شغله حسن الكناية وسحر السجع، ورهبة التشبيه، ودقة الاستعارة، ومنه اللغوي الذي شغلته المفردة تجريداً وزيادة ولهجة، وكل منهم وجد ضالته، فهذا القرآن بحر علم لا شواطئ له، به تبحر العقول حيث لا مراسي إلا بقدر ما يستشف الدارس من النص، أثيرت قديماً مسألة مفردات القرآن هل هي عربية كلها؟ هل في القرآن لفظ غير عربي؟ ماذا عن لغات غير العرب الذين تأثر بلسانهم العرب وأثروا به، فتلاقح اللغات أمر لا مناص منه و مهما بلغت اللغة من الجزالة والمتانة. ظاهر آيات القرآن أن كل مفرداته عربية خالصة، قد دافع الأوائل بشراسة عن هذه الفكرة، وقد انقسم الناس في الأمر إلى ثلاثة آراء: رأيان معتبران ورأي مريض ليس له من علم في الأمر، ولا يقول في النص القرآني إلا ما أشرب من هواه تارة عن حقد، وتارة عن جهل، وشدد الشافعي النكير على القائل بخلاف هذا. الرأي الثاني: يرى وقوع غير العربي فيه، وأصحابه جهابذة في اللغة والدين، يعتد برأيهم ولا يشك فيهم مؤلفاتهم واستماتتهم في الدفاع عن هذا الكتاب، تشهد صفاء قلوبهم منهم ابن هشام والثعالبي والسيوطي، وهذان الرأيان هما موضع نقاش ويمكن التوفيق بينهما، خلاف القول الثالث الذي يعتبر تعصباً في غير مكانه إنكار ورود غير العربي في القرآن، فشواهد وقوعه عديدة، لا سبيل لتجاوزها والقفز عليها. (كتاب رسائل من القرآن)