قبل سنوات طويلة عند بداية حياتي المهنية في إحدى الشركات اليابانية، كنت مع صديقي وزميلي في العمل ماسا نحاول إثبات جدارتنا وكفاءتنا أمام رؤسائنا عبر تنفيذ المهام بسرعة وبأفضل جودة ممكنة. وصلنا لمرحلة نضطر فيها لمواصلة العمل ليالي متتالية في مقر الشركة دون العودة لمنازلنا. حتى جاء ذلك اليوم الذي كدنا فيه نسقط من الإعياء. استدعانا أحد مديري الشركة إلى مكتبه وراح يخاطبنا بروح الأخ الأكبر: "مشكلتكما أنكما لا ترفضان أي عمل ولا تفوضان أعمالكما لأي شخص آخر! لا بد أن تراجعوا حساباتكم وتعيدوا النظر في طريقة عملكم!". مرت سنوات وقابلت مؤخراً ماسا من جديد والذي صار رئيساً لشركة كبرى تحقق نجاحات قياسية في السوق. تفاجأت به شاحب الوجه والإرهاق يكتسح ملامحه. تبين لي أنه اضطر للتنويم في المستشفى لمدة شهر كامل بسبب الإعياء الشديد من العمل مما جعله يضطر للابتعاد عن الأعمال والمشاريع خلال هذه الفترة. سألته: "طالما أن ضغط العمل عليك كبير جداً لهذا الحد، لماذا لا تفوض بعض المهام التي عليك إلى مرؤوسيك؟"، فكانت إجابته: "لا أحد يستطيع أن ينجز العمل بطريقتي وبنفس مستواي. كما أنه لا وقت لدي لأقوم بتعليمهم وسيكون أسرع عليّ بكثير أن أنجز جميع المهام بنفسي!". في الواقع، ربما تكون إجابة ماسا واقعاً يعيشه الكثير من المديرين والرؤساء الذين يعملون تحت ضغط شديد وسط زحام من المهام ذات الطبيعة المستعجلة. لكن ورغم ما سيتطلبه تجهيز الصف الثاني والثالث من وقت وجهد في البدايات، إلا أن المحصلة النهائية ستكون في مصلحة المنظمة ومصلحة المدير الذي قام بالتدريب وإعداد هذه الكفاءات. وقد تختلف وجهات النظر هنا حسب طبيعة القائد أو المسؤول. فهنالك فرق شاسع بين شخص يخشى على منصبه أو كرسيه ويحاول محاربة الموهوبين من مرؤسيه وكتم العلم ومنع نقل الخبرات والمهارات ليحصرها في نفسه ظناً منه أن ذلك سيضمن بقاءه لأطول فترة ممكنة، وبالمقابل وفي الجهة المقابلة فهنالك القائد الذي يؤمن بالتمكين وتطوير مهارت مرؤوسيه والاستثمار فيهم لدرجة يضمن فيها سير العمل بانسيابية دون أي تدخل منه. وهذا في واقع الأمر يمكن قراءته كمؤشر لأن ذلك الشخص جاهز للترقية أو الانتقال لموقع أفضل وفرصة جديدة ومهام أكبر. على الصعيد الشخصي، فلا أنسى أبداً في مسيرتي المهنية سعادة السفير أ. فيصل طراد والذي كان يصطحبني للترجمة له بين العربية واليابانية في الاجتماعات الرسمية مع كبار المسؤولين والوزراء اليابانيين وأنا ما أزال في مقتبل العشرينات في مرحلة الماجستير. هذه الاجتماعات كانت بمثابة تأهيل كبير لي ساعدتني على التعرف على تطبيق قواعد السلوك الدبلوماسي وكيفية إدارة الاجتماعات بكفاءة وكسر حاجز الرهبة. ولا أبالغ بأن ما تعلمته من تلك الاجتماعات لم أكن سأتمكن من تحصيله بقراءة الكتب أو حضور دورات تنفيذية في أرقى الجامعات اليابانية أو العالمية. ومازلت إلى هذا اليوم أستفيد من تلك الخبرات وأحاول جاهداً تطبيق نفس المبدأ مع فريق عملي باصطحابه في الاجتماعات والمفاوضات والنقاشات المختلفة ليكونوا جاهزين لاستلام دفة القيادة في أحد الأيام بكل ثقة واقتدار. وباختصار، الموظف المميز يحقق المستهدفات والنتائج العالية ويمكن تقييمه بناء على ذلك. ولكن القائد المميز لا يكتفي بتحقيق الأرقام والمستهدفات على المستوى الفردي، بل يمتلك رؤية بعيدة ويتحلى بالصبر والشغف لتأهيل وتمكين موظفين مميزين يحققون المستهدفات والنتائج ويصنعون المنجزات ويقتدون بسيرته في إلهام الأجيال وتمكين القادة. وأي مدير يستثقل تأهيل مرؤوسيه وتطوير مهاراتهم فلا بد من إعادة النظر في قدراته القيادية وصلاحيته للبقاء في منصبه!