التقديم: تقدم كلير دولانوي Clarie Delannoy في كتابها رسالة إلى كاتب شاب Lettre à un jeune écrivain مجموعة من الخطوات العملية التي تمكّن الكاتب المبتدئ من استهلال مسيرته الإبداعية بنجاح. وقد ركزت أساساً على الإجابة عن عدد من الأسئلة المتعلقة بدواعي الكتابة وطرائقها، محددة أهم القواعد الواجب اتباعها من أجل إنجاحها؛ بحيث قدمت للقارئ عصارة تجربتها في مجالي النشر الورقي والإبداع الروائي، مبرزة أهم سمات الرواية الناجحة، ومسلطة الضوء على الرواية من زاوية المعايير الأساس التي تؤهلها لتحقيق نجاح ورواج في السوق الثقافية، وذلك من خلال عقد مقارنة متميزة بين الرواية الفرنسية والرواية الأنجلوساكسونية، بالإضافة إلى تقديم نصائح إجرائية للكاتب الروائي الشاب وتوجيهه نحو المسار السديد الذي سينقله رأسا إلى درجة كبار الروائيين. الترجمة: إن الرواية، باعتبارها عالماً في كتاب، هي ثمرة تخيُّل مخصوص بزغ في الغرب وارتبط بعصر الأنوار. ولا شك أن إنتاجات أدبية أخرى وُجِدت قبل هذا العصر وبعده. غير أن ما أقترحه هنا هو أن ننظر إلى الرواية بوصفها إبداعا لفرد ما، منفلت بشكل كاف من كل القيود حتى تتأكد باعتبارها ممارسة حرة، وفي نفس الآن مرتبط، رغم كل شيء، بمحيطه. فالروائي ليس إلكترونا حرا؛ إنه ينتمي، في حاضرنا هذا، إلى عالم هو بالأحرى عالم للحكامة الديمقراطية، يتحمّل فيه جانبا من المسؤولية باعتباره مواطنا. كما أنه يؤمن بموقعه داخل المدينة حتى وإن كان يعارض مَن يحكمه؛ ويمكن لهذا أن يشكل أيضا الهامش أو المعارضة أو الرفض. «فأي سؤال أكثر خطورة يمكن للكاتب أن يواجهه، إن لم يكن ذلك المتعلق بمسؤوليته؟ (...) يبدو أن الغرب حاليا قد تحرر من هذا الهاجس، فاصلا بين شيئين اثنين هما: الكتابة (الروائية) والمسؤولية (الأخلاقية)»، كما قال محمد ديب في تقديمه اللاحق ل الليلة المتوحشة. «فنحن نطرح المشاكل الأخلاقية التي تشغلنا من خلال الأدب والشعر والرواية بأكثر الطرائق الممكنة مادية وتأثيرا»، كما قال إدجار موران، دون خلط ذلك بالأخلاق. إذ «ليست هناك رواية أخلاقية، كما ورد على لسان فلوبير، بل ثمة أخلاق للرواية؛ بحيث من المفروض أن يترك الروائي للقارئ حرية الفهم»، على حد تعبير جان جاك بْروشيي. وإذا كانت فكرة الرواية الملتزمة قد فقدت بريقها بالمعنى السياسي أو الإيديولوجي، فإن الرواية التزام في علاقتها بالعالم؛ فلماذا نقرأ بشكل دائم ومستمر الروايات الأنجلوساكسونية عوض قراءة الروايات الفرنسية؟ تكمن أسباب ذلك في الانخراط الاجتماعي للسارد، وفي طريقة اندماجه داخل الجماعة وتحديده لمسار في زمن معين، وأيضا في تأويله للعالم على طريقته الخاصة. إن الرواية الأمريكية هي الفرد والجماعة، بكل ما ينجم عن ذلك من توتر وانخراط. لقد انبثقت الرواية من تطور معين للعالم، آمن فيه الفرد بقدره بالرغم من كون هذه الرؤية رؤية تاريخية كارثية. فدائما هناك وظيفة تبصرية وانخراط اجتماعي، يتلاشيان شيئا فشيئا في الرواية الأوروبية، كما لو أن الفرد الذي أصبح فردانياً لا يملك شيئاً ليقوله عن محيطه. لا أدافع هنا عن الرواية الاجتماعية، بيد أنه إذا كان معظم الروائيين يعلنون الكتابة من أجل القارئ وليس من أجل ذواتهم، «فإن الشيء الوحيد الذي نكتبه لأنفسنا هو لائحة المشتريات» كما قال أمبيرتو إيكو. فمن الجيد أن يستحضروا الآخر في أذهانهم، سواء كان مقرباً أو غريباً، محبوباً أو مكروهاً، ولا يهم إن كانوا يرغبون في إبلاغه نظرتهم للعالم أو تجربتهم الأساسية؛ فهذا التخييل-المرتحل هو الذي تحدث عنه بوتور قائلا: «لا نتوفر في الوقت الحالي على شكل أدبي يمتلك قوة تضاهي قوة الرواية». فالرواية أسطورة، كما أنها تؤدي وظيفة الأسطورة. وليس الروائي إلا باحثا عن الذهب، هشا ومتمركزا حول ذاته، وغالبا ما يكون متطيرا، ومزاجيا على الدوام. لا يعرف الناس هذا، كما أننا لا نمتلك الكتابة دائما؛ فهم يظنون أنه بمجرد ما تكون كاتبا فهذا يعني معرفة الكتابة، والحقيقة أن الأمر بخلاف ذلك، فمعرفة الكتابة تغيب أحيانا، كما قالت كريستين أنغو. تولد الرواية من ذلك القلق والصراع مع المادة الكلمية على الطريقة الدون كيخوتية؛ فلا أحد غيره يرى ما يواجه، ولا يؤمن بذلك إلا هو. وقد كانت مارغريت دوراس قد وصفت بشكل رائع حالة العزلة هذه، وهي حالة الكتابة، في مؤلَّفها الموسوم بأن تكتب؛ ومن ثَم، سيان إن تحدثنا عن احتضار ذبابة أو معركة أوسترليتز. لهذا السبب ليست الكتابة عملا أو مهنة، رغم أنها تتطلب الانضباط والاستمرارية، ولا نتمكن أبدا من معرفة خط وصولنا أو ردود أفعال القرّاء. لا يتعلق الأمر أيضاً بلعبة حظ [يانصيب] يحضر فيها مفهوم الصدفة بقوة؛ فالنص يوجد، وقد لا يُتعرف عليه إلا فيما بعد. وبالتالي، لا يمكن للكتابة أن تكون إلا التزاما عميقا وغير عقلاني في نظر الغير. وكما قال إيطاليو كالفينو في آلة الأدب: «باشتغالي في دار للطبع، خصصت وقتا أطول لكتب الغير على حساب كتبي، وهو أمر لم أندم عليه؛ فما يخدم عموم جماعة مدنية ما هو الطاقة الموظفة بشكل جيد». يمكن أن أقتبس هذه الصيغة لنفسي مع إضافة ما يلي: نحن لا نختار؛ فالكتاب هو الذي يأتي إليك عندما توجد الكلمات بكامل ثقلها وبداهتها. وكما يسجل فريديريك بادري في مستقبل الأدب، حتى وإن كان الأمر كذلك «فإنه يصبح من الصعوبة بمكان التمييز بين الجيد والرديء، عندما يهيمن الخاطئ» وصناعة الترفيه. يتعلق الأمر بإثبات لناقد أو سوسيولوجي، لا يقدح البتة في عملية الكتابة التي تقوم بها؛ فأنت تنتمي إلى قبيلة متوحشة لا تهتم بالاستبارات أو بكيفيات التطبيق والنسب المئوية، على الرغم من أنها تُحلَّل ويُعلَّق عليها بصفة منتظمة من أجل مَعْيَرتها. محمد ديب إيطالو كالفينو مارغريت دوراس