تبدو الكتابة كفسحةٍ لنا، عندما تضيق بنا الحياة. كما أنها تتصف علميًا بأنها أداة علاجية في تحسين الحالة النفسية. وما اتضح لنا في الأعمال الأدبية، بأن أعظم ما تمت كتابته وأصبح يحمل قيمة فنيّة عالية، كان في بادئ الأمر ليست سوى محاولة في الهروب من المعاناة التي تكتسح الزمن. «الزمن هو العنصر الأنبل والأشد جوهرًا في العملية الإبداعية» كما قال كافكا. ومن أمثلة الأدباء التي كانت أعمالهم الأدبية نتيجة الهروب من المعاناة، هو «توفيق الحكيم» وما لاقته مذكراته من نجاح باهر. وعلى الرغم بأن لم يكن الحكيم راغبًا في نشرها، إلا أنه وجد فيها ما يجسّد صراع الإنسان، لتتحول إلى عمل أدبي. «مذكرات نائب في الأرياف» التي كتب في مقدمتها: لماذا أدون حياتي في يوميات؟ ألأنها حياة هنيئة؟ كلا إن صاحب الحياة الهنيئة لا يدونها إنما يحياها. هنا في هذه اليوميات أملك الكلام عنها. وعن نفسي وعن الكائنات جميعاً. أيتها الصفحات التي لن تنشر ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق». وكما ذُكر في كتاب «كافكا قال لي» بلسان كافكا بأن «الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير كُتبَ في إحدى رسائله بأن روايته هي صخرة يلجأ إليها لكي لا يغرق في موجات العالم حوله. ثم أعقب كافكا قائلًا: كنت أفعل كذلك في يومٍ ما. كافكا رائد الكتابة الكابوسية قد رانت لنا الكتابة «الكافكائية» كابوسية المعنى. وهذا ما جعلنا في محاولة بحثية عن تلك الأسباب التي أدت لتكون كذلك. لماذا يظهر كافكا بكل هذا الحزن؟ هل هو تحقيق للمعنى الحق للفن وهو التراجيديا أم كان يخفي نفسه خلف تلك السطور؟ لكن بعد الاطلاع على حياته الشخصية، انكشفت لنا الأسباب. وتيقنا بأن كتاباته هي انعكاس لكوابيس عدة. كابوس الأب القاسي، كابوس مرض السل، كابوس الهوية اليهودية، كابوس علاقته المستحيلة مع حبيبته ميلينا. لقد قال كافكا مرة «لغوستاف يانوش»: «ما تمت كتابته هو رواسب التجربة فحسب» إذن كل ما في أيدينا الآن هو رواسب لتجربته الكابوسية. وقد عبّر كافكا بأن الكتابة كانت بالنسبة له «مكافأة عذبة رائعة» تقوده نحو الشفاء الخالص من آلامه الكثيرة، وتجعله قادرًا على مسايرة الأرق في الليالي الطويلة. كما أنها كانت الخطوة الأولى في التواصل مع أبيه عن طريق الرسائل، حيثُ إنه كان يخشى الحديث معه. كانت الكتابة هي السبيل الوحيد في الهروب من المعاناة، والتعبير عمّا تسرّب منها في داخله. ولهذا نجد أن جميع شخصياته الروائية مستلهمة من عذاباته وقصصه الشخصية التي وصفها «بالخربشة»، أهرب للأمام من نفسي لكي أمسك بها عند سارية النهاية». وتعتبر قصة «الحكم» أهم ما يمكن ذكره؛ إذ كانت تتحدث عن العلاقة القلقة التي تجمع «جورج» بأبيه. قال والده له في جدالٍ حاد: أنا أحكم عليك الآن بالموت غرقاً. أسرع جورج في النزول من السلالم، قفز البوابة، وهرب إلى النهر، تمسّك بسور الجسر مثلما يتمسك جائع بالغذاء، وقبل أن يسقط في النهر منتحرًا، هتف قائلًا: أيها الوالدان العزيزان، لعمري قد أحببتكما دائمًا. ثم سقط إلى الأسفل، ولهذا لم تكن الكتابة بالنسبة لكافكا هدف أدبي يتسم بأبعاد الطموح والانتشار؛ حتى أنه أوصى صديقه ماكس برود بحرق كل ما كتبه، إلا أن صديقه لم ينفذ الوصية، ولهذا حاز كافكا على شهرته بعد وفاته. إن أدب فرانز كافكا برمته، لم يكن سوى واقعًا عايشه وأخذ في الكتابة عنه أملاً في التحرر منه. قال كافكا: لولا ليالي السهر المريعة تلك لما كتبتُ أبدًا. تحتل اليوم أعمال كافكا الأدبية مكانة جليلة في الأدب العالمي، وهي في حقيقة الأمر محاولة فرار من ذلك الليل المريع.