من نافلة القول إنّ النصّ الأدبيّ يعتمدُ في إبراز جماليّاته على البلاغة اللغويّة، ومراعاة مقتضى الحال، والمواءمة بين مستويات النصّ المتعدّدة، وسياقاته المتشعبّة التي قد تتخطّى حدوده؛ لتشرك المتلقي وإطاره التاريخيّ والنفسيّ والاجتماعيّ في بلوغ الغاية الجماليّة المنشودة في كلّ نصّ. رافق انتشار الكتابة في الثقافة العربيّة ظهور جماليّات جديدة شكّلت فضاء مثاليًّا للفنان العربيّ لإظهار مواهبه، وتفريغ طاقته الفنيّة، فكان تجويد الخطّ العربيّ وحسن تنظيمه من تلك الجماليّات التي حظيت بالقبول والاعتناء في الثقافة العربيّة، ولا سيما في كتابة القرآن الكريم، حيث تسابق الخطاطون في إبراز جماليّات الخط العربيّ في كتابة المصحف الشريف الذي نزل بلسان عربيّ مبين، وفي غيره من الكتابات والتوقيعات ولو بظهور أقلّ. أمّا في الحقل الأدبيّ، فقد بقيت المشافهة والكتابة متجاورتين في عمليّة حفظ النصوص الأدبيّة، والأحداث التاريخيّة من دون تجاوز مهمة الحفظ والتدوين والإبلاغ، فيما عدا بعض الظواهر الفنيّة الكتابيّة التي بدأت بالظهور منذ نهاية العصر العباسيّ إلى بدء القرن العشرين وما رافقه من نهضة أدبيّة بعد طول رقاد وركود، وما يلفت الانتباه أن القصيدة العربيّة أخذت شكلًا فنيًّا كتابيًّا يميّزها عن غيرها من أنواع الكتابة، عبر طريقتها الكتابيّة المؤلّفة من صدرٍ وعجزٍ لكلّ بيتٍ شعريّ. مع ولادة قصيدة التفعيلة في منتصف القرن العشرين، وتحوّل طريقة كتابة الشعر فيها من النظام الخليليّ المعروف (صدر وعجز) إلى نظام السطور الشعريّة المكتوب بنظام التفعيلة الواحدة المتكرّرة (البحور الصافية)، وصولًا إلى كتابة قصيدة النثر والفنون الكتابيّة المعاصرة، نشأ ما يُسمى ب»البلاغة البصريّة» في النصوص الأدبيّة المرافقة للبلاغة اللغويّة، والمستقلّة إلى حدٍّ كبير عن جماليّات الخطّ العربيّ والفنون التشكيلة وأصولها الخاصّة. يقصد بالبلاغة البصريّة طريقة تنظيم النصّ الكتابيّة، أو طريقة اشتغال سواد الكلمات في بياض الورقة، وهو ما يعني عدد الكلمات في كلّ سطر، وطريقة تموضعها فيه، إضافة إلى حضور علامات الترقيم وتوظيفها فنيًّا ومعنويًّا، فكلّ ذلك لا يكون مجانيًّا من دون دلالات بلاغيّة أو معنويّة أو أسلوبيّة تشحن النصّ بطاقة انفعاليّة تسهم في رسم جماليّاته، وتساعد في قراءة مستوياته، وسبر أغواره، بل إنّ بعض النقّاد أصبح يعدّها أحد مقومات النصّ الذي يُراد تحليله، كما أنّها تقحم المتلقي في عمق النصّ، وتجعله أكثر قربًا من حالة المبدع النفسيّة والفنيّة، وتعرفُهُ واحدةً من أدوات إنتاجه الفنيّة. تولّد عن البلاغة البصريّة الحافّة بالنصوص المعاصرة والمتشابكة معها جماليّات جديدة، أمسى معها النصّ توليفة تكامليّة، ما بين لغة مكتوبة وبلاغة بصريّة تتّكئ على ثنائيات، من مثل: السواد/البياض، والكتابة/الصمت، والمصرّح به/المسكوت عنه؛ لتنسج جميعها دلالات النصّ ورؤاه، وتوسّع من جمالياته وأفق معانيه، وتشرك القارئ في تشكيل معانٍ -ربّما- لم تخطر ببال مبدع النصّ نفسه، عبر دخوله من فجوات النصّ البيضاء، وفراغات الصمت البكماء، ودلالات الإبلاغ والتصريح، وتأويل تموضع الكلمات وعددها في سطور النصّ، وما يرافقها من توظيف إبداعيّ وفنيّ لعلامات الترقيم.