اختلفنا في كل شيء، ولكن عند الفن اتفقنا جميعًا بأنه تعبيرنا عن الحياة، وعن استجابتنا لكل ما يحدث فيها، لكن الاختلاف الكامن في الفن، هو في تحديد غائية التعبير، يرى البعض أن الفن أداة لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرهما، من أجل تطوير المجتمع، والبعض الآخر جعل الفن يتعالى فوق الأرض بكلِّ ما فيها من مادية، ومن أنصار هذا الرأي مفكرنا الكبير توفيق الحكيم. وفي تأييد هذا الرأي يدعونني إلى تذكير احتياج الإنسان الحقيقي من الفن، لقد تتعدد الوسائل التي يستطيع فيها الإنسان طرح قضاياه بأسبابها، وحلولها، والتعبير عن أحداثها، كالبرامج والصحف، لكن هنالك احتياج لا تحققه تلك الوسائل، وهو احتياج معنوي، يجسّد صراع الإنسان في خوضه لتلك القضايا، وليس التحدث عنها. في استيضاح ذلك أستعين ما تحدثت عنه د. أميرة حلمي حول الفن قائلة. "فعلم النفس مثلا يصف الانفعال، ولكن لا يجوز للفنان أن يقوم بوصف الانفعال وإلا كان يقوم بمهمة العالم، لأن الفنان لا يصف الانفعال وإنما يعبّر عنه بتقديمه وقد نعبّر عن الغضب بغير أن نذكر كلمة الغضب، بل لو استعمل الشاعر مصطلحات علم النفس لكي يصف الانفعالات التي يعبر عنها فإنه عندئذ يضعف قدرته التعبيرية". ولا تقتصر صراعات الإنسان في أمورٍ تخضع للعوامل الاجتماعية، بل يعيشُ أيضا صراعات أخرى مع المرض، والحب، والغربة، وغيرهم. إنه الفن وحده هو الذي يستطيع تجسيدها، بشرط أن تكون وفق (إطار جمالي) فغاية الفن الحقيقية هي تناول الجميل في كل شيء. يتبين لنا ذلك في قصائد الرثاء التي تمتلئ بصراع الإنسان مع مرارة الفقدان، فلا شيء يجعل هذا النوع من القصائد يبقى خالدًا ومتداولًا إلا التعبير الجميل في وصفها للألم. هذا ما جعل بيت سالم المهلهل في رثائه لأخيه يخلد آلاف السنين: دَعَوتُكَ يا كُلَيبُ فَلَم تُجِبني وَكَيفَ يُجيبُني البَلَدُ القِفارُ تتضح وجهة النظر الأولى وهي الفن كمعالج للقضايا، بشكلٍ واضح في الأدب الأمريكي. مما جعل توفيق الحكيم يطلق عليه بأنها (صحافة راقية) وليس أدبًا حقيقيًا. فقيمة الفن لدى الحكيم هي إشباع الاحتياج الروحي يقول، فضل الإنسان على غيره من المخلوقات أنه أرتفع إلى العناية بأشياء معنوية لا تتصل مباشرة بطعامه وشرابه ومقومات حياته المادية. وهذا سمّاها فيما سمّاه: الفن والأدب، وحرص على أن تبقى على قدر المستطاع بعيدة عن تفاهاته الأرضية، كل ما كان يُعنيه الحكيم، ذلك الأمر الذي جعل الإنسان يسمو على الحيوان. وهي قدرته على تمييز الجمال واستشعار روح الخالق الباطنة في الطبيعة، وتنوير روحه بأسئلةٍ لا يمكث حتى يجد لها الإجابات، هذا كلّه نتاج العقل الذي لا يملكه سوى الإنسان، مما وهب له الارتقاء من المستوى الحيوانية التي تجعل كل مراميه لمقاصدٍ ماديّة. قائلًا في هذا الصدد لو أن هنالك حيوانًا أدرك الجميل في حسن الأزهار، وإلى تفتحها ابتسامًا للفجر وهي تعانقه، لا نقلب إنسانًا في لحظة واحدة، فالفن وسيلة الإنسان في احتياجه للتعبير عن هذا الجميل. نستطيع القول بعد ذلك إن الفنان يقوم بتقديم كل ما يضني الإنسان في لوحة فنية أو مشهد تراجيدي أو في قصيدة. فالفن كما يراه الأديب العالمي نجيب محفوظ هو وعي التعاسة لا التعويض عنها، أما في التعويض عنها وتحليلها ووضع حلولًا لها فإنها تكون على عاتق المُصلحين، فالفنان والمُصلح أو العالم كلاهما من أجل الإنسان، ولكن يجب ألّا تتبادل أدوارهما.