} رحل الشاعر الفسطيني محمد القيسي صباح أمس في عمان عن 59 سنة وكان أصيب قبل أيام بجلطة دماغية أوقعته في الغيبوبة. والشاعر ولد سنة 1944 في قرية كفر عانة التي تقع قرب مدينة يافا. بعد هجرة 1948 تنقل القيسي مع أسرته بين عدد من مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية حيث تعلم الكثير من الأغاني الشعبية الفلسطينية التي كانت أمه وعدد من النساء يرددنها، وقد تركت هذه الأغاني أثرها في شعره. حصل القيسي على البكالوريوس في الأدب العربي وعمل سنوات في سلك التعليم في مدينة الدمام السعودية ثم أمضى أربع سنوات متنقلاً بين بغداد ودمشق وبيروتوالكويت وبنغازي قبل أن يعود الى عمان عام 1977. يعد القيسي واحداً من الشعراء الغزيري الإنتاج في جيله. ومن دواوينه: "راية في الريح" 1968، و"خماسية الموت والحياة" 1971، و"رياح عز الدين القسّام" 1974، و"الحداد يليق بحيفا" 1975، و"إناء لأزهار سارا، زعتر لأيتامها" 1979، و"اشتعالات عبدالله وأيامه" 1981، و"كم يلزم من موت لنكون معاً" 1983، و"الوقوف في جرش" 1983، و"منازل في الأفق" 1985، "كل ما هنالك" 1986، و"كتاب حمدة"، و"عائلة المشاة" 1990، و"صداقة الريح" 1993، و"كتاب الابن" 1994، و"ناي على أيامنا" 1996. وأصدر القيسي أعماله الشعرية في ثلاثة مجلدات عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1999. وله رواية "الحديقة السرية" صدرت عن دار الآداب هذا العام ورواية غير منشورة كان أرسلها الى الدار نفسها قبل يوم من إصابته بالجلطة الدماغية وعنوانها "شرفة في قفص"، وستصدرها دار الآداب قريباً. شعر القيسي متنوع يستخدم فيه الشطرتين، ليطعم به نصه، مثلما يستخدم التفعيلة، وقصيدة النثر، وهو يضمن شعره أحياناً إشارات يستمدها من التاريخ والنصوص الأدبية والأغاني الشعبية. برز اسم محمد القيسي في الستينات شاعراً من الموجة الثانية من الشعر الفلسطيني المقاوِم، الجيل الذي ضم عزّ الدين المناصرة وفواز عيد وأحمد دحبور ومريد البرغوثي ووليد سيف وسواهم، أي الجيل الذي ظهر بعد الموجة الأولى المتمثلة في جيل توفيق زياد ثم سميح القاسم ومحمود درويش. الموجة الأولى كتب شعراؤها قصائدهم في ظل الاحتلال، فيما كتب شعراء الموجة الثانية قصائدهم في ظلال التشرد والخيام، قبل كتابتها في ظلال البنادق. وكانت هذه الموجة من الشعراء، في الوقت نفسه، تمثل الرعيل الثاني من شعراء قصيدة التفعيلية العربية التي كان من روادها السياب والبياتي والملائكة. منذ مجموعته الأولى "راية في الريح"، ثم "خماسية الموت والحياة"، و"رياح عز الدين القسام"، كان واضحاً انتماء قصيدة القيسي إلى شعر المقاومة في وصفها العام ومفرداتها المختلفة... ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المجموعات الثلاث تشكل، مرحلة أولى في تجربة القيسي. تليها مرحلة ثانية تبدأ ب"الحداد يليق بحيفا" و"إناء لأزهار سارا زعتر لأيتامها" و"اشتعالات عبدالله وأيامه"، فيما يمكن اعتبار "كم يلزم من موت لنكون معاً" فاتحة مرحلة ثالثة. ويمكن اعتبار "الوقوف في جرش" نقلة نوعية في هذه التجربة. ثم جاءت مجموعة "منازل في الأفق" لتشكل فاتحة مرحلة قد تكون هي المرحلة التي استمرت. كانت اللغة السائدة في المرحلة الأولى خصوصاً، هي لغة التفجع والندب والتوجع والحنين إلى الوطن والأهل في ليل الغربة والمخيم والمنفى، قبل أن تظهر مفردات المقاومة المسلحة. ومنذ البداية كان قلق الشاعر يتجه بقصيدته نحو الوطن وهمومه وقضاياه، ولم تكن الذات الفردية لتظهر إلا بصفتها واحدة في جمهرة من المنفيين والمشردين، وقد بدأ بقصائد توجه رسائلها إلى الشق الآخر الذي ظل في الوطن تحت الاحتلال، كما يظهر من السطور الأولى في القصيدة الأولى من هذه المجموعة الأولى: "ترى من يخبر الأحباب / أنّا ما نسيناهم / وأنّا، نحن في المنفى، / نعيش بزاد ذكراهم". وكان القيسي في مجموعته هذه لا يزال يتنفس القهر العام والقلق والغربة من دون التفات إلى الهم الخاص. وكان صوته لا يزال يهمهم ويدوِّم ويهوِّم في آفاق قصيدة الرواد وتأثيرهم الكبير على كل من تبعهم... إن على صعيد الانشغالات أو على مستوى المفردات والخطوط العامة للقصيدة... ثم يظهر تأثير شعراء ما قبل النكبة أمثال عبدالرحيم محمود والكرمي أبو سلمى، وبعدهم كان تأثير شعراء المقاومة الأوائل زيّاد ودرويش والقاسم وفدوى طوقان. ظلت تسود في شعر القيسي مفردات وعبارات مثل "الغربة السوداء"، "المعذبون في متاهة الضياع"، "غنوتي الأولى مبللة بأحزان الرحيل"، "منسيون، منفيون". ثم نقرأ فجأة إمكان خيارين "يغفو الجرح أو يتفجر البركان" لا نعرف أيهما الأقوى! وتتعالى نبرة غضب خجول من دون أن ترتفع وتيرة القصيدة فنياً، على رغم بروز مفردات ذات مرجعيات ثقافية، وعناصر لجدلية صراع يحتدم بين الفن والقضية. ففي قصيدته "المصلوب" التي يهديها إلى الشاعر خالد أبو خالد، وهي مؤرخة في الكويت 1966، ثمة وعي متقدم على صعيد النظر إلى القضية من زوايا مختلفة، واستعمال لغة وعبارات وصور وتراكيب تؤشر الى بداية اختلاف، حيث تظهر صور وعبارات مثل "قبض الريح كان حصاد ماضينا"، و"قاسية نيوب الجوع..."، ويسأل "أموت/ وهل تموت الشمس لو طالت خيوط الليل؟...". بدأت القصيدة تأخذ مسالك جديدة، لكنها ظلت تتأثر خطى كبار الشعراء، وينتبه القيسي مبكراً إلى رمزية قصة "يوسف" ودلالتها على الفلسطيني في علاقته مع إخوته العرب "قيّدني إخواني ورموني في الجبّ/ قتلوني بجواب الصمت". وفي قصيدة "مأساة الصبيّ الأعرج" تظهر بذور إمكانات القصيدة ذات البنية الحوارية المسرحية التي سنجدها في قصائد مرحلة مقبلة من تجربة القيسي، ولكن شيئاً من السذاجة في التعبير عن الوعي الطبقي يبرز في النص. ثم تظهر في القصيدة نفسها بوادر الظاهرة السردية في شعره التي ستتطور في ما بعد. وهنا نلتفت إلى ترافق السرد والحوار مع تعقُّد القضية وتشابك الوطني والإنساني فيها. ويظهر الصراع الطبقي في أوضح صوره، حيث البؤس المزدوج، الوطني والاجتماعي. وتشكل قصيدة "راية في الريح" نقلة مختلفة في هذه المرحلة الأولى، فعلى رغم أن القصيدة تبدأ بالدمع "بحثت بأدمعي عنكم"، والسؤال الحارق "تُرى ما زلتمُ أحياء؟"، إلا أن النص سرعان ما يلتحم بلحظة وطنية وإنسانية مختلفة. فالأهل على رغم تشردهم لم يتخاذلوا، ولا بانوا عن الأرض، ثم فجأة تنحني القصيدة نحو "وعدتُ إليكمُ عبر الليالي السود من منفايْ/ أقاسي خيبة الآمال...". وتظهر لغة تنعى سلاح الكلمات في زمن باتت فيه "الطريق علامة حمراء/ فكيف أصمّ آذاني وأقعد عن نداء الأرض والشهداء"، وسرعان ما يعلن الشاعر، "أنا القصيدة"، بوضوحٍ لغةَ شعبه الذي ينطوي وراء حروفه. بعد ذلك تستمر تجربة القيسي تنهل من مصادر مختلفة، ويظهر حضور لوركا "ليمهلني الموت حتى أصير في قرطبة/ قرطبة البعيدة والوحيدة"، ويبدأ ظهور الموروث الشعبي الفلسطيني الذي سمعه الشاعر من أمّه غناءً وأمثالاً "يا دار، يا دار، لو عدنا كما كنّا/ لطليكِ، يا دار، بعد الشيد بالحِنّا"، ويتعتق الحزن في الجرار، وتصفع المنفيَّ "عيون الغير في المنفى"، ويصر على إعلان هويته "فلسطيني، أجل..."، ويبرز في الأفق "وميض الرفض والإصرار والثورة"... وتظهر بوادر الأمل "الرمح بعدُ ما انكسر" على رغم الهزيمة التي كانت هزيمة للأنظمة الحاكمة وليس للثورة أو المقاومة. وتبدو "العاصفة" هي هذا الأمل، وهي رمز الثورة، كما أنها اسم الفصيل الأساس في المقاومة الفلسطينية آنذاك، آخر الستينات. وتتصاعد في شعر القيسي نبرة غضب ورفض يبدو أنها مرتبطة بتفجير المقاومة الفلسطينية وانطلاقتها الثانية والحقيقية العام 1968، وتظهر هذه الموجة الغاضبة في قصيدة "العاصفة"، حيث يعلن الشاعر ثورته التي يكسر فيها صورة الماضي "كسّرنا مرايانا القديمة"، وحين يتيقن من احتضان العاصفة له، يرى ويسمع صوت "رفض المزامير التي بحّت أسى مراً/ ولم تخرسك أجراس الهزيمة". ويتضح مدى ارتباط الشعر والشاعر بواقع المقاومة، من جهة، ورفض الواقع العربي وهزائمه التي يأمل في تجاوزها من جهة مقابلة. ص 77 ويظل حزن الشاعر صورة تعكس حزن الفلسطيني أكثر مما تعكس مشاعر خاصة، ويبرز ذلك من خلال محاولات "أسطرة" الحزن وربطه بما جرى للفلسطيني ربطاً يتبدى في مظاهر عدة، منها هذا المظهر المتميز للحزن بصفته عنصراً من عناصر الثورة والأمل "أن يظل الحزن في الداخل... وعداً كالبذار"، فهو حزن معتق وقديم، ويمكن أن يتحول ثورة. وهنا تحضر صور النضال الفلسطيني منذ بداياته، عبر الغناء الشعبي الذي فجرته ثورات ونضالات سابقة، خصوصاً نضال العشرينات والثلاثينات الذي أطلق أغنية "طلّت البارودة والسبع ما طل" التي يستخدمها الشاعر كأنما ليذكر بزمن ثورة مضى وزمن ثوار قضوا...! ومع نهاية المجموعة الأولى هذه، تتكرس ظاهرة كتابة حال الشتات الفلسطيني، عبر التنقل الدائم للشاعر بين عمانوالكويت، كما تتمثل في قصيدة "مقاطع من مدائن الأسفار"، فتبدو صارخة غربة الشاعر التي تغدو "غربتي العجوز"، وهي غربة تبدو حكيمة وقوية حين تشير عليه بأن "الدمع يا صديقي الحزين لا يجوز". وعموماً تبدأ تظهر تباشير أمل بالتواصل مع الجناح المغتصب من الوطن والأهل، لأن من عاشوا الشتات ومأساة العراء "يسطِّرون روعة البقاء/ ويجدلون من عذابهم للمجد أغنيات/ ويبسمون رغم قسوة الحياة". ص 86 خماسية الموت والحياة في مجموعته الثانية "خماسية الموت والحياة" ط1، دار العودة، بيروت، 1971، وتضم قصائد كتبها في العامين 1969 و1970، نلمس استمراراً لتصاعد نبرة المقاومة ومفرداتها، الطابور والخندق، كما نلمس صعوداً للنبرة الغنائية، من دون أن تختفي نبرة الرثاء والحزن والبكاء حدّ العويل أحياناً. وتتسع رقعة التنقل بين عمانوبيروتوالكويت، وتعود نغمة التيه "أكابد الإعياء" تعبيراً عن صراع حاد بين ثنائية موت/ حياة. وعلى صعيد البنية الشعرية سنرى استخداماً جديداً للأوزان من خلال استخدام مجزوءات البحور الشعرية "تقاسمتكِ الدفوفُ/ عشية الحبُّ ماتا/ فما أفاد الوقوفُ/ ولا مللتُ التفاتا"، هذا الاستخدام الذي يرافقه ميل إلى لغة أشد رقة وشفافية، وصوراً تطوي تلوينات وخطوطاً أغنى من المألوف في قصائده السابقة. وتتداخل صور الحاضر بصور الماضي، فيظهر الثائر الفلسطيني من جيل الأب متواصلاً مع صورة ابنه بقميصه الكاكيّ. في قصيدة "بطاقة إلى فراس"، التي تبدو موجهة إلى ابن الشاعر، يظهر تواصل الأجيال مرة أخرى، على نحو يعكس تتابع المأساة والأمل في الخلاص. وتتكرر صور التشرد وتتكاثر في المنفى العربي، ونتوقف لدى قصيدة "أيتها الغربة وداعاً"، التي يوجهها القيسي إلى الشاعر خالد أبو خالد بعد طرده من الكويت. فهنا تقطير وتكثيف للحزن الذي يصفه الشاعر بأنه "خميرتنا يا خالد". ويتخذ الحزن أشكالاً وألواناً، ويتخذ أبعاد المأساة، فهو يظهر في صورة "فقدان المعنى"، و"الأيام الصفراء" و"موت الإنسان الضائع". لكنه لا يلبث أن يغدو غضباً وثورة وسلاحاً "لا يُغمد". وارتباطاً مع الأغاني، وغير بعيد من مناخ المقاومة، يبرز "وهم الخلاص"، أو ما يسميه الشعر هنا ب"الخلاص الموهوم"، وهو ما يحيلنا إلى عمق المأساة التي يعيشها الفلسطيني ويجسدها الشعر، حيث تلتقي مفردات الأمل والوهم في جملة واحدة، إذ يدرك الفلسطيني حاجته إلى الأمل حتى لو كان وهماً. وتظهر بيروت آخر الستينات، 1969، مدينة بلا حنان، يعبر فيها الشاعر وقد افتقد "فاطمة"، ويقيم "على ضفاف اليأس"، وتنبعث من الذاكرة الأبعد صورة الحمداني أبي فراس "هنا يموت/ من دون قيد الروم/ ها هنا يموت"، ويفتقد الشاعر أي إلفة، فيلجأ إلى المفردة اللبنانية "قوّستمُ أخي وصاحبي". وكما في بيروت، يظهر وجه عمان وصورتها "غادة ترفض ودّي/ وأنا أبحث في كل الوجوه/ عن يد تسند ظهري". ص 104 المجموعة الثالثة للقيسي كانت "رياح عز الدين القسام" ط1، وزارة الإعلام - بغداد، 1974، وقد كتبت قصائدها بين عمان والدمّام. والجديد في هذه المجموعة، هو تطوير لبذرة بدأت في قصائده الأولى، وهي البنية المسرحية في الشعر، خصوصاً في نص "حين قال سامر: لا في المواجهة الأولى..."، وكذلك في "عز الدين القسام: جزء من حديث ذات ليلة باردة". في نص "سامر..."، الذي يبدو مكتوباً للفتيان، ثمة بساطة في البناء وفي لغة الحوار، ويستخدم الشاعر من مفردات المسرح شخوصه وجوقته مع المغني. أما في نص "القسام" فنحن أمام نص يلعب فيه الشاعر لعبة بعث الشهيد حياً ليروي ما جرى، من جهة، وليشهد ما يجرى في حاضر الشاعر من جهة ثانية. وهنا نقف على بنية درامية بأبعاد ملحمية، حيث يلعب الخيال والذاكرة والموروث في سياقات متداخلة تخدم رؤية الشاعر للمأساة. وتدخل في هذه المجموعة القصيدة ذات البنية المدورة، التي تعتمد التدوير في سطور طويلة تسرد وتحكي وتندب وتدعو للثورة والعصيان. الحداد يليق بحيفا بدءاً من مجموعة "الحداد يليق بحيفا" ط1، دار الآداب، بيروت، 1975، يدخل القيسي مرحلة شعرية جديدة ارتفع فيها سقفه الفني، وبات صوته أشد تميزاً في غنائيته، خصوصاً في القصيدة التي تحمل اسم المجموعة، والتي كتبها الشاعر بعد زيارة له إلى حيفا أيلول سبتمبر 1973: "مراسم قهرك جارية/ وأنا أحتفي بجواد التفتُّح والنار/ في ليلك المأتميّ.../ هذا زمان السكون المدوّي...". وتتصاعد هذه الغنائية الجماعية، وتبلغ ذروتها في "إناء لأزهار سارا زعتر لأيتامها"، وفي "اشتعالات عبدالله وأيامه" و"كم يلزم من موت لنكون معاً"، وبعده في "الوقوف في جرش"، حيث هذه النبرة الرقيقة العالية من الحنين والأسى والتفجع. وضمن الغناء المجروح المملوء بالانكسارات والهزائم، حيث الذات تعبير عن الفقدان المطلق للتواصل... ينطلق القيسي في تجربة جديدة، وهو في كتابته كثير التجريب، تجربة تتناول حقلاً من حقول الذاكرة الفلسطينية، وهي تجربة أيلول الأسود، وتتمثل حدة التجربة في تزويج ألوان من الشعر الخليلي، والتفعيلة، والنثر في نص طويل "الوقوف في جرش" يستعيد التاريخ ويصمده في الحاضر ويزوجهما من المستقبل. وفي هذا النص يتساكن النفَس الهادئ المنطلق من الحاضر لاستحضار الماضي، ماضي المكان جرش، بما تمثله في تاريخها الحديث، حيث ترتد القصيدة إلى الماضي القريب، وتأتي بأسلوب الشعر القديم: "وقِفا نحكِ على أسوارها/ بعض ما يوجع من أسرارها/ يا خليليّ ولم يبق سوى/ ومضةٍ أو قبس من نارها". ثم تنتقل حركة القصيدة إلى الماضي الحاضر في تجربة أيلول: "لأقل إن أحبائي ينامون هنا/ وعلى مقربة منّا/ على باب جرش/ سأغني باسمهم هذا النشيد المأتميّ". ويغني من وزن آخر بإيقاع جنائزي من الوزن الثقيل الوافر الخليليّ: "دفنّا أجمل الفتيان فيكِ/ وقلنا يا صبيةُ هل نفيكِ/ وقفتُ على طلولكِ في جلالٍ/ أريكِ من الهوى ما لا أريكِ/ لئن طوّفتُ في الآفاق دهراً/ فقد كانت يداكِ هما شريكي". وتتنقل القصيدة بين الأزمنة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، وتتدافع الصور، ونتأمل المستقبل في صورة الحاضر: "لي أنني أبني على مهلٍ/ كوخي وأرفع من دمي عرشي". بعد ذلك، تكاثرت كتب القيسي، بين الشعر والنثر، والرواية مؤخراً، كأن القيسي يسابق الزمن في الكتابة والنشر. فمن "كتاب الفضة" 1986 و"كل ما هنالك" 1986 و"كتاب حمدة" 1987، و"عازف الشوارع" 1988، إلى آخر كتبه الشعرية "منمنمات أليسا" المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2002، ورواية "الحديقة السرية" الآداب - 2002، ورواية "حدائق عارية" التي نشرها مجزأة في الصحف... في المرحلة الممتدة من 1984 إلى المرحلة الأخيرة، باتت نصوص القيسي محكومة بالانفلات على غير صعيد. انفلات من قيود الوزن، ومن قيود الذات الجماعية والهموم الوطنية المباشرة... صار أشبه بالتروبادور عازف الشوارع الوحيد: "ولم يكن وحده/ لكنه بكى/ بكى من الوحدة". ظل القيسي قريباً من الموت دائماً، وشديد الهجس به في نصوصه، فها هو تلميذ الشوارع، ينظر فيرى صورته القادمة من المستقبل: "أيتها الشوارع/ غداً تنسينني/ أنا نتوؤك الوحيد/ والمرض الذي يحمل العافية". ويميز قصيدة القيسي الطابع الغنائي وكثرة الأوصاف القائمة في المضاف والمضاف إليه. أما الشجى والأسى وغيرهما من مفردات الفضاء المأسوي التي يعد القيسي من أكثر الشعراء الفلسطينيين تكريساً لها، فهي من أكثر عناصر غنائيته بروزاً. وإذا كانت مفردات الموت والموات مثل: الذبول، الغياب، الجفاف، الفراغ، السدى، النأي، الخسارات، البين، الغبار... هي من قاموس القيسي قبل هذا الديوان، فقد مرت في لحظات راوحت بين الإطار العام والخاص، وبين أحزان الفرد وأحزان الجماعة... بين خسارات الإنسان الفرد وخسارات الشعب. أما في "كل هذا البهاء وكل شفيف"، فلا حضور لصوت الشعب - الجماعة، بل هو صوت الإنسان - الفرد. هو كما يبدو، صوت الشاعر "لا تمرّ الحياة كما ينبغي/ لا يتلهى على شرفتي غير هذا الخريف/ وخط الشجى بات أطول". أو قوله في وضوح تراجيدي "هل ينقذني أسلوبي/ من آفة نيساني/ .../ آه ما أعماني". أما الخطاب السابق فكان بصوت الجماعة "ذبلت أيامنا عاماً فعاماً". وتتصاعد نبرة الإحساس باقتراب نهاية الإنسان، وتحتل حيزاً لم تكن تحتله في تجربة القيسي الشعرية من قبل، وتتشكل في صور عدة إذ تبدو ثمة علاقة بين حضور المرأة والإحساس باستمرار الحياة. وعلاقة أخرى بين حضور المرأة واستمرار الحياة فعلاً. علاقة شرطية: تستمر الحياة بوجود المرأة. وتوجد المرأة باستمرار الحياة. علاقة أساسها الإحساس بالزمن سلباً وإيجاباً، تسارع دقاته أو تباطؤها. هذا الإحساس بوطأة فعل الزمن يجعل الشاعر يصرخ بضمير الغائب: "وهو من كان جواداً للمسافات/ عريس الأرض بدءاً/ صار... عبئاً".