جمعتني جلسة ممتعة مع أحد كبار السن. كان يسألنا خلالها عما إذا كنا نعرف أصل بعض المصطلحات المحلية التي نستخدمها، أو القصة التي تولدت منها تلك المصطلحات وتجذرت في لغتنا، وحكى لنا عن عبارات أو أمثال نتداولها، ولا نعلم أن وراءها ظرفاً تاريخياً أو حكاية منسية. كشفت لي الجلسة جهلي بالكثير من الموروث الثقافي الذي نتداوله ولا نعرف أصله. الموروث الشفهي هو جزء أصيل من هويتنا وتاريخنا، وواجب علينا تجاه الأجيال المقبلة، روائع التاريخ وقصصه وحكاياته وإبداعاته وصلت لنا عبر التوثيق، عمل البعض من أسلافنا على نقش الأحجار والكتابة على أوراق الشجر للتوثيق بأدوات بدائية؛ فيما نتمتع نحن بكل الأدوات المسموعة والمرئية والمكتوبة السهلة والمتيسرة لتوثيق الموروث لكن للأسف لم نتعامل معه بالجدية اللازمة. الموروث الإنساني بشكل عام حافل بالأحداث الحقيقية والمتخيلة والأساطير والأمثال وحتى الطرائف والنكت، لكن ما تم توثيقه وحفظه من الضياع هو نسبة بسيطة جداً مما شهدته الأجيال المتعاقبة، ولذلك مات الكثير من التاريخ والموروث الثقافي بموت العقل الذي يتذكره. محلياً كان هناك تجارب ملهمة ورائعة لحفظ الموروث من الضياع، من أبرز الذين أدركوا أهمية التوثيق كان عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله-، والذي أصدر خمسة مجلدات حملت عنوان "أساطير من قلب الجزيرة العربية"، صدر أولها في منتصف الستينات، كما دون "الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب" ليكون أهم الرواد الذين ينسب لهم الفضل في حفظ الموروث الشعبي من الضياع. الآن مع التغير الكبير الذي فرضته وسائل التواصل الاجتماعي على كل شيء تقريباً تغير أسلوب التوثيق لشكل أكثر تلقائية وعشوائية، وفرص ضياعه أكبر، أتحدث عن المرويات التي تذكرها بعض الحسابات على شكل تدوين مرئي، لكن هذا النوع من التوثيق لا يمكن حفظه من الضياع. غالب كبار السن يحملون مخزوناً ثرياً من المرويات التي تستحق التمحيص والتوثيق، وحقيقة نحن بحاجة لاستيعاب القيمة الهائلة لتدوين الموروث الشفهي، إذ إن كل الجمال الذي وجدناه في الكتب هو حصيلة جهود فردية رائعة من قبل من دونوها ووصلت إلينا بفضلهم، وعلينا أن نواصل مسيرتهم وندون للأجيال المقبلة كل ما نستطيع أن نحصل عليه من مرويات كبار السن قبل أن يلتهمها النسيان أو ترحل برحيلهم.