سهّلت التقنيات الحديثة على البشر سُبل التواصل والمُراسلات السريعة، ولكنها حرمتهم من المُتع التي كان يوفّرها لهم ضجيج الأوراق، ورائحة الحِبر، وحدب الأصابع على القلم، وحرمتهم كذلك من طقوس إيداع الرسائل في صناديقها المُعتِمة، مصحوبة بمشاعر الرجاء والخوف، وحرمتهم من تلك اللهفة العارمة التي يفتحون بها تلك الصناديق، التي لم تعُد تضُمّ بين جنباتها كنوز الحياة وذهب القلوب المُدوّن على الورق. ولقد دأب الكُتّاب والأدباء منذ القِدم على تبادل الرسائل الخاصّة مع أصدقائهم، واهتمّت بها دور النشر، وأتاحتها لاطّلاع القُرّاء، طلباً لمُتعة الفضول، والتسلّل إلى حياة المشاهير من الأدباء الشخصية، عبر رسائلهم الخاصّة، وما تحتويه من تلقائيّة وبساطة وبوح صادق. ولذلك فنحن لا نقصد في هذه المقالة تلك الرسائل المُتّصلة بقضايا اللغات والآداب والعلوم والسياسة والاجتماع، كما هو في تراثنا العربي من رسائل الجاحظ وابن المُقفّع وأبي العلاء وغيرهم. فقد كتب الشاعر سميح القاسم مثلاً رسالة إلى صديقه الشاعر محمود درويش، يقول فيها: «مسكينٌ ساعي البريد، المُتنقّل بيننا، مثل رقّاص ساعة أثريّة. مسكينٌ ساعي بريدنا؛ حمل رسالتك -دمعتك- الأخيرة، فحملتهُ الحيرة كيف يوصلها إليّ». ووصف الفيلسوف الألماني نيتشه ساعي البريد بأنه: «وسيطٌ يحمل مُفاجآت غير مُتوقّعة، سارّة أو حزينة.. إنه ينقل في حقيبته خفقات القلوب، والمشاعر الإنسانية، والخِدَع البشرية أيضاً». وأوصى نيتشه ساعي البريد أن يترفّق بشحنته، كما أوصانا من قبل الشاعر العربي أبو العلاء المعرّي، بأن نترفّق بالتُراب، لأنه يُمثّل بقايا أجساد البشر عبر الزمن، حين قال: خفّف الوطء ما أظنّ أديم الأرض إلا من هذه الأجسادِ وكتب الرسّام الفرنسي كامي كورو في رسالة إلى صديق: «عليّ أن أستيقظ في الثالثة صباحاً، قبل شروق الشمس، أجلس تحت شجرة أرقب وأنظر، في البداية لا يلوح لي شيء، ويجيء أول شعاع يُنير السماء، فتستيقظ الأزهار سعيدةً، فوق كلّ منها قطرة ندى، وكأن الزهور تُصلّي»! وإذا لم تكُن شاهدت هذه اللوحة، فإن هذه الكلمات تتراقص أمامك، لتُجسّد لوحةً، تتخيّلها العيون ولا تراها. ومن رسائل اثنين من كبار الكُتّاب الروس، حديث عن الحرب بأسلوب مُختلف؛ فقد كتب دوستوفيسكي يُشجّع على الحرب: «بلا حربٍ، ينمو الناس ثراءً ودعة، ويفقدون القُدرة على التفكير والنُبل. الإنسان بلا ألم لا يُحسّ بالفرح، فالألم كالذهب، يُصبح بالنار نقيّاً. والتجارب العابرة لا تؤذي، والحياة الجديدة تنبت من الصدمة القويّة»! أما تولستوي فقد كان ضدّ الحرب، وكتب في رسالته: «لا أوافق الناس عندما يقولون أن طرفاً واحداً يقع عليه اللوم في حرب تشتعل. وربما يكون أحد الأطراف قد ارتكب إساءات أكثر من الطرف الآخر، ولكن ذلك لا يُبرّر هذه الظاهرة الرهيبة اللاإنسانية». وأخيراً، كتب طيّار ياباني عمره 24 عاماً، واسمه أيشيزو هاياتشي رسالة إلى أُمّه، قبل أن يقوم بهجوم انتحاريّ على الأسطول الأمريكي في «بيرل هاربر». ولم يُعرف هذا الشاب إلا بشجاعته، ولم يشتهر إلا برسالته التي حفظتها أُمّه، ولم يكن أديباً أو شاعراً، ولكن رسالته كانت حافلة بالمعاني الإنسانية البلاغية العميقة، فيقول: «جاء الوقت لأنقل إليكِ أخباراً سيّئة، أحببتني أكثر مما أستطيع أن أحبّك. إني سعيد لأنهم اختاروني لهذه المُهمّة الخاصّة، ولكني لا أستطيع منع دموعي عند التفكير فيكِ. بذلتِ كلّ جهد لتعليمي، وساعدتني على مواجهة المستقبل، وحزني عميق لأني سأموت دون منحكِ شيئاً مُقابل هذا كلّه؛ لا السعادة، ولا الهدوء النفسي. لا أستطيع أن أطلب منكِ أن تكوني راضية، وأنا أُضحّي بحياتي. أو تجدي فخراً في وفاتي، مهما كانت الميتة مجيدة. سأقول لكِ وداعاً وأنا بين السُحُب. كُنتِ دائماً تحلمين لي بمستقبل رائع، ويؤسفني أني خيّبتُ أملكِ. وأقول الحقيقة أني أحياناّ أفكّر في العودة إليكِ، ولكن هذا عملٌ جبان. حاولي أن تجدي العزاء عندما تذكرين أني كُنت طيّاراً رائعاً».