مع قرب موعد انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب مع نهاية هذا الشهر، تتهيّأ المدينة بأطيافها كافة لاستقباله باحتفال كبير، حتى باتت أيامه العشرة واحدة من أهم مواسم هذه المدينة التي تحتفل بوجودها عبر مظاهر عدة حين كانت ومازالت إحدى معجزات القرنين الماضيين، حيث مدينة تعد من أهم مدن العالم مزروعة في صحراء شاسعة، لكن شأننا مع الكتاب لا يقتصر على مدينة الرياض إذ يبدو أن معارض الكتب في كل أنحاء العالم تحظى بهذا الاحتفاء، وتتذاكره موعدًا وحضورا، ومع كل هذا الصخب الواعي الملازم له في كل زمان ومكان لاتزال هناك أصوات عصرية تتعالى منذرةً بانتهاء زمن الورق في ظل التوجّه المطلق للتعاملات الرقمية في المكتوب لدينا، حتى بلغ الأمر الاستخفاف بالمهتمين والمتابعين لهذه المعارض كقراّء! مع أنها كانت ومازالت على الأقل خلال العقدين الأخيرين تجذب الزوّار وتشغل الثقافة وتتواعد مع الإصدارات والحضور... وعلى الرغم من أن العلاقة برائحة الورق، وهيبة الكتاب التاريخية تظل أمرًا نسبيّا وربما خاصًّا لدى البعض منا إلا أن الأمر يتجاوز ذلك على مايبدو، فالكتابة الرقمية المعاصرة لاتختلف كثيرا عن ذلك الاعتداد القديم بالذاكرة في أول التدوين.. حين كان في مجمله حرفة لا يقبل عليها عُلْية القوم، بل إن الوراقة والانشغال بالكتابة في التاريخ القديم تعدّ إحدى النواقص التي لا يقوم بها إلا الموالي أو الأقل شأنا، ولعل هذا الاعتداد بالذاكرة جعل كثيرا من أحداثنا وتواريخنا القديمة محض احتمال في بعض الأحيان لولا أن التدوين حينها استدرك ما أمكنه منها فتباينت الروايات واختلفت في كثير من الأحداث والمواقف. اليوم تتكرر تلك الصورة بشكل عصري فالمنشور على الشبكة الإلكترونية أو المكتوب رقميّا لا يزال في غير مأمن من الزوال، فلربما فايروس إلكتروني واحد بإمكانه أن يسقط الآلاف من المحتويات الرقمية أو حتى انقطاع كيبل في البحر قد يفضي إلى إخفاء مكتبة إلكترونية كاملة، صحيح أن المحتوى الرقمي جعل من المادة المكتوبة في متناول اليد بيسر وسهولة وانتشار لا نظير له على مستوى البحث والانتقاء والتشابه والتشاكل وغيرها من شؤون العودة إلى المراجع، لكنه لم يحفظ لها الخلود الذي كفله الكتاب منذ حضوره الأول، فلا يزال الكتاب مادة محسوسة يمكن امتلاكها والنأي بها عن غارات الزمن وتحوّلاته والمستجدّات فيه، فضلا عن كون العلاقة النفسية المباشرة معه المتمثلة برائحة الورق وحميمية الكتاب كصديق تحمله وتتنقل به وتتسوّح بصفحاته في كل مكان وزمان، لاتزال تتملّك البعض منا. ولكي أكون أكثر واقعية دعونا نعود فقط حيث عقدين ماضيين من الزمن، ونتساءل عن تلك (المنتديات الإلكترونية) التي حملت واستوعبت الآلاف من الكتابات على تعدد توجهاتها وتخصصاتها والأعضاء المشاركين في محتواها، أين هي اليوم بكل ما كان فيها من محتوى وبكل ما حملته من اهتمام ومتابعة وتفاعل، لقد سقط كل ما فيها بسقوط زمنها.. وبقيت الكتب التي خرجت منها ماثلة للخلود بعبق رائحتها وملمس الورق فيها. لاشك أن العالم الرقمي اليوم اختصر الزمن وسهّل الحياة على مستويات عدة لاسيما المعاملات والخطابات والمراسلات، لكن الكتاب لايزال صديق المثقّف ومرآة القارئ ووثيقة الخلود المحسوسة، وربما كان لهذا العمق التاريخي المتجذر فينا للكتاب دور كبير في هذا الإقبال وهذا الاحتفال النفسي الذي تعيشه المدن مع أيام معارض الكتب فيها.. إذن هو الكتاب الذي نحتفي به مهما بلغت بنا التقنية ومهما تجاوز الزمن أوراقه الصفراء منذ فجر التاريخ.!