مع التقدم التكنولوجي وثورة الصناعة التي سيطرت على العالم أجمع بدأت سيطرة التقنية ورواج وسائل التواصل الاجتماعي على كافة الأصعدة وزحف «السوشيال ميديا» إلى دقائق الحياة وكافة ميادينها ولا سيما حياتنا الثقافية والمعرفية والأدبية.. وبدأ الكتاب الإلكتروني يقوم بدوره في إقصاء الكتاب الورقي. وبدأ الكتّاب يستغنون عن التدوين الورقي، ويمارسون التدوين الإلكتروني. ولم يكن هذا حصرا على الكاتب والمؤلف بل امتد إلى القراء الذين يعتمدون على المصادر الافتراضية في تكوين ثقافاتهم، ويتلقون الكتاب الإلكتروني لسهولة تداوله والحصول عليه، فهل يصمد الكتاب الورقي أمام هذا المد الرقمي؟، وهل يتمكن الكتاب الرقمي من إقصاء سابقه الورقي؟ حول هذا الموضوع كان هذا الاستطلاع الذي استضاف فيه «الجسر الثقافي» مجموعة من الكتاب والمثقفين: الكتاب.. الكتاب الروائي ماجد سليمان ينتصر للكتاب الورقي حيث يقول: مصير الذاكرة الكتابية التقنية بلا شك هو الموت المفاجئ، ومن أمن بقاء النشر الالكتروني بكافة أشكاله فقد أهلك ثقافته. «الكتاب» هو الثابت في الثقافة والأدب، أما لمعة نجم التكنولوجيا فقد خفتت، ومن قبله فإن الجادين من الأدباء لا يؤمنون بهذه المواقع ولا يرون فيها صلاحا لأدبهم وإبداعهم، والذي أدمن الكتاب لن يدمن غيره، ولن يجد له بديلا مهما عددوا البدائل الوقتية. الثقافة بوجهها العام حتى تكون مهيأة للعطاء والنمو لا بد من توافر بيئة ومناخ هادئ، لذا كان الكتاب المرتع المتفرد والفريد، أما من قاس الأدب على مساحة مواقع التواصل، واحتج بعصر السرعة، فقد برهن على فقره الإبداعي، وشح مورده الأدبي. مواقع التواصل أوجدت قرية صغيرة، لكنها مُفلسة من المعاني الحقيقية للمعرفة، فمهما مجدها المنبهر بها تبق أمرا عابرا كغيرها من الموجات التقنية والتسويقية التي تمر بالحياة الثقافية، وكما في القول المأثور: لا يصح إلا الصحيح... والصحيح هو «الكتاب». سيعود الناس للكتاب لأنه النبع الأصيل الصافي، ولا أظنهم سيخدعون أكثر من ذلك بمواقع التواصل، لأن جُل ما فيها تدمير لوقار الكتابة، وفي جهد أصحابها عجز الإرادة، والهروب من قواعد الأدب السليمة، وتحت مسميات طبل لها النقد، وصفق لها البسطاء من المتلقين الذي ينامون ويفيقون وهم في مواقع التواصل الاجتماعي. التحولات البصرية يوافقه الشاعر علي سباع فيقول: في خضم هذا التسارع نحن نعيش أزمة التجربة الحقيقية التي تتشبع من أنموذج معين كتابي وتظل تسبر اغواره حتى تصل لابداع حقيقي فيه، ومع كل انتقالة للجمهور أصبح الكتاب يتبعونهم بدلا من أن يتبع الجمهور الكتاب، او على الاقل أن يتوازن الاثنان في انتقالة ضرورية كما كان يحدث في انتقالة الشعر العمودي للتفعيلة ومنه للنثر. أما عن فرار المغردين والعودة للبيت الأول، فأظن أن الزمن يأخذنا من الكتابة للصورة، يبتعد بنا نحو الأشياء البصرية وحديثها، فبدلا من قراءة كتاب عن تاريخ الأندلس يمكن مشاهدة فيلم وثائقي عن الأندلس باليوتيوب، وهكذا التحولات البصرية فنرى أن برامج مثل «سناب شات» و«انستقرام» بدأت تأخذ مجراها نحو الجمهور بشكل أكبر، سيكتشف الكتاب لاحقا أنهم حين تبعوا الجمهور في موضاتهم وصلوا لمنطقة تلاشي الكتابة. لهذا.. على الكاتب الحقيقي ان يظل مكانه، ان يكتب مهووسا باللغة ذاتها، غير مكترث بحركة الزمن وتداعيات المكان، ان يكون سابقا للموضة بكتابة ما هو اجمل من التغريد واوسع من الصورة. ذاكرتهم افتراضية ويؤيد الناقد والقاص الدكتور حسين المناصرة سابقيه فيقول: ما مصير ذاكرتنا الكتابية والثقافية في ضوء تسارع الموضات والصرخات التقنية وتبدلها؟! هناك مساران أو مصيران لهذه الذاكرة: الأول منهما، وهو المهم جدا: يتعلق بالذاكرة الكمية، وهي ذاكرة معظم المدونين والمدونات الذين اقتصرت فاعلياتهم الكتابية والثقافية على الرقمية/ الإلكترونية فقط، فهؤلاء ذاكرتهم افتراضية، وهذه الافتراضية من السهل جدا أن تتعطل أو تلغى في ظل تحولات خطرة قد تعصف بالعالم الإلكتروني كله أو بعضه في مهب الريح. وفعلا، هناك ذاكرات عديدة أعدمت في بعض المواقع الرقمية، لأسباب عديدة، منها: أنها كانت مجانية، فأغلقت كمدونات «مكتوب» مثلا!! ونجد كثيرين كانوا ضحايا لفيروسات أو إغلاقات أو توقف أو حجب أو ما إلى ذلك في هذا العالم الافتراضي غير المستقر، وغير الآمن. وثانيهما: ما يتعلق بالذاكرة النوعية، وهي الذاكرة الرقمية التي يحفظ فيها كثير من المدونين والمدونات ذاكرتهم ورقيا في النشر الورقي، ومن ثم يكون النشر الإلكتروني رديفا للنشر الورقي. هذا في مجال المهم المنشور في كتب أو مجلات أو غيرها من الأوعية الورقية. ومع ذلك فلهؤلاء ذاكرة رقمية، تغدو جزءا من الذاكرة الأولى الكمية، وهي كثيرة أيضا، ولكن ضياعها لا يشكل خطورة في سياق المبدع أو المثقف الذي يحفظ كيانه الرئيس ورقيا!! ومن الناحية الدرامية، أظن أن ذاكرتنا الكتابية والثقافية في سياق الرقمية أو في ضوئها، هي ذاكرة تراجيدية أو مأساوية، لأنها رهينة تقنية معقدة من جهة، وفي الوقت نفسه بإمكانها أن تكون ضحية بأسهل الطرق وأقلها عبثا أو تآمرا!! لنتخيل خفوت لمعة نجم التكنولوجيا وبرامج التواصل!!.. كيف سيكون مصير الكتاب والأدباء لو فر الناس من مواقع التواصل؟! هل نتخيل كيف سيعودون إلى زمن الكتاب بعد أن أدمنوا على زمن ومضات «تويتر»؟! ينبغي ألا نتأمل كثيرا في مستوى مقروئية الكتاب والأدباء لدى عامة القراء، لأن كثيرا من كتابنا وأدبائنا لا يتجاوز إنتاجهم دائرة الكتاب والمبدعين أنفسهم، لذلك يمكن أن نتحدث عن جيل آخر من الشباب المبدعين «الفيسبكيين والتويتريين» وغيرهم، فهؤلاء يدركون جيدا أن كتابتهم لا تعني لهم أكثر من كونها أرشيفا رقميا، يمكن حفظ بعضها لديهم، دون أن يتجاوز ذلك إلى الطباعة الورقية. وتبدو مواقع التواصل المختلفة مرحلة نعيشها اليوم، ولا بد أن تتغير غدا، وهنا -بكل تأكيد- لن تكون لها آثار كارثية على كثير من الكتاب والمبدعين، الذين يدركون جيدا مسألة أقدامهم الراسخة في النشر الورقي في هذه المرحلة تحديدا، حفظا منهم لخط الرجعة. وهذا لا يجعلنا أيضا نستبعد فكرة أن كثيرا من الرقميين اليوم يمكن أن ينتقلوا إلى النشر الورقي بسهولة ويسر، إدراكا منهم لأهمية هذا النشر في المحصلة بالنسبة إلى كتابتهم التي حرصوا على الاحتفاظ بها!! وفي الوقت نفسه، توجد مشكلة كبرى لدى من أدمنوا هذه الوسائل الذكية والسريعة، ولم يحسبوا أي حساب لدمارها أو تراجعها، ومن ثم يصعب عليهم أن يتجاوزوها إلى مستويات تقليدية أقل منها، كالعودة إلى الكتابة الورقية!! ستظل حاضرة ويلخص القاص القطري جمال فايز رأيه في قوله: ستبقى الذاكرة الكتابية والثقافية حاضرة، أعتقد أن كل ما هو جديد ومنافس لا يلغي ما سبق، قد يكون شيئا مؤثرا ولكنه لا يلغي الذاكرة الكتابية فهي ستظل حاضرة وقد تتخذ في المستقبل أشكالا وأنماطا أخرى مغايرة عما عرفه أسلافنا وما نعرفه نحن اليوم، لأن هناك أدوات جديدة ستظهر في الساحة والمعرفة الثقافية للإنسان. ستكون نوافذ تزاحم ذاكرتنا الثقافية ولكنها لن تستطيع أن تغلقها. لماذا لا ننظر للأمر من زاوية إيجابية؟! الكتاب مثلا كان موجودا قبل «فيسبوك» و«تويتر»، ووجودهما كان له إيجابيات وسلبيات على الكتاب، وأبرز إيجابية هي سعة الانتشار وسهولة الوصول للآخر وللمعلومة والثقافة والمعرفة التي نريدها، وكذلك التلفاز لم يلغ ما سبقه كالسينما مثلا، لا شيء يلغي ما سبقه ولكن يمكننا أن نعتبره إضافة إذا نظرنا بطريقة إيجابية. لقد أثبت الكتاب أنه الأهم بل الكتاب الورقي خصوصا، فبنظرة سريعة إلى العالم في أوروبا وأمريكا واليابان سنجد الكتاب الورقي لا يزال متسيدا في الحدائق العامة وصالات الانتظار أكثر من وجود الكتاب الإلكتروني. ذوق المتلقي وتخالفهم غالية خياط فتقول: تغيرت أماكن الكتابة وتواجد الكتب، قديما كان الصباح يبدأ برائحة القهوة وحبر الجرائد، أما الآن فيبدأ الصباح برنة هاتف ذكي يشير إلى تناول مادة دسمة أشغلت الرأي العام عبر «سوشيال ميديا». من هنا تغيرت قناعات المجتمع، واختلفت عن الكتاب التقليدي لم يعد للذاكرة الورقية الاهتمام المكثف كما كان من قبل، المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعية «فيس بوك»، «تويتر»، «انستقرام» وغيرها أصبحت الاسهل في الاستخدام والأرخص كذلك، سهلت القراءة من الناحية الإيجابية وعلى المقابل سهلت سرقة المعلومة ونسخ الكتب وأمهاتها. الفرق بين الأجيال «الورقية» و«الإلكترونية» هو ان الجيل الذي نشأ على قراءة الكتب تقل عنده الأخطاء الإملائية وهو سريع التعبير عن مكنوناته النفسية وهذا الجانب الإيجابي في الأمر. إذا سلطنا الضوء على الأدباء في الساحة الشبابية حاليا تجد مؤلفاتهم فيها اللغط الكبير حول المرجع والمصدر. لابد للر قابة أن تكون عصرية تماثل التقنية الجديدة وحفظ حقوق الكتاب بنمط الكتابة الحديث وتتماشى مع السرعة المعرفية. وتسخير الغرب الأجهزة التي تماثل الكتب في الإضاءة والخفة كبرنامج «كاندل» الذي صنع خصيصا لقراءة الكتب الالكترونية يعد من ايجابيات النشر الرقمي. فبين القديم والحديث توافر المعلومات وسهولة الوصول إليها هو الأهم، فالقراءة الورقية أم الرقمية هي الأجدر هذا يرجع إلى ذوق المتلقي لا بأس بكليهما. النقطة الجلية في استخدام التقنية هو انتشار العلم والمنفعة، وعدم التحيز للعمر أو جنس الكاتب. عصر السرعة ويخالفها الرأي عزان المعولي حيث يقول: التطور السريع في تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي تتناسب مع ملامح الإنسان الحداثوي الذي يطلق عليه هاربرت ماركوز مصطلح «الإنسان ذو البعد الواحد» أو بوصفه عدميا نشيطا حسب نيتشة، العقل الجمعي الحديث يفقد القدرة على التركيز المعلوماتي بين دفتي كتاب ويرى أن الثقافة أو الأدب يمكن الإحاطة بهما من خلال تطبيقات التواصل. أتصور أن الأضواء التي تسلطها التقنيات الحديثة على كاتب ما، هي لمعات مؤقتة لا تدلل على عمق الكاتب وإنما على عصر السرعة الذي جعل الثقافة محصورة في كلمات قلائل يستغني بها القارئ عن الكتاب وهذا يثبت سطحية من يؤمن بهذا الافتراض في استخداماته للتقنيات الحديثة. المثقف الإلكتروني أو التقني هو في الحقيقة يفرض على عقله إطارا ضيقا من المعلومات السريعة والسطحية لذلك يعلي جمهور التواصل من شأن كاتب مثلا رغم بساطة كتابته وعدم تميزها في شيء إلا أنها تتناسب مع السهولة والسطحية السريعة. الكاتب والقارئ يجب أن لا يستغنيا عن الكتاب الورقي إطلاقا لأن التقنية ستتطور إلى غيرها أو ربما ستختفي بينما الكتاب يبقى لقرون طويلة، الزمن يحفظ الكاتب المبدع الحقيقي ويفرزه كأيقونة أدبية خالدة. الكتاب هو الغنى الثقافي لطالب المعرفة والأدب، وتطور الأجيال هو في ذاته تطور للعقل الفرداني الذي يطغى على اللاوعي الجمعي لذلك يبقى الكتاب الذي يستحق البقاء كشاهد على عظمة المكتوب.