مع كل إعلانٍ جديد عن معرضٍ للكتاب هنا أو هناك.. تتعالى أصوات عصرية منذرة بانتهاء زمن الورق في ظل التوجّه المطلق للتعاملات الرقمية في المكتوب لدينا، حتى بلغ الأمر للاستخفاف بالمهتمين والمتابعين لهذه المعارض التي ظلت على الأقل خلال العقد ونصف الأخير تجذب الزوّار وتشغل القرّاء وتتواعد مع الإصدارات والحضور... وعلى الرغم من أن العلاقة برائحة الورق، وهيبة الكتاب التاريخية تظل أمرًا نسبيّا وربما خاصا لدى البعض منا إلا أن الأمر يتجاوز ذلك، فالكتابة الرقمية المعاصرة لاتختلف كثيرا عن ذلك الاعتداد القديم بالذاكرة في أول التدوين.. حين كان في مجمله حرفة لا يقبل عليها علية القوم، بل إن الوراقة والانشغال بالكتابة قد تعدّ إحدى النواقص التي لا يقوم بها إلا الموالي أو الأقل شأنا، هذا الاعتداد بالذاكرة جعل كثيرا من أحداثنا وتواريخنا القديمة محض احتمال في بعض الأحيان لولا أن التدوين حينها استدرك ما أمكنه منها فتباينت الروايات واختلفت في كثير من الأحداث والمواقف. اليوم تتكرر تلك الصورة بشكل عصري فالمنشور على الشبكة الإلكترونية أو المكتوب رقميّا لا يزال في غير مأمن من الزوال، فلربما فايروس إلكتروني واحد بإمكانه أن يسقط الآلاف من المحتويات الرقمية أو حتى انقطاع كيبل في البحر قد يفضي إلى إخفاء مكتبة إلكترونية كاملة، صحيح أن المحتوى الرقمي جعل من المادة المكتوبة في متناول اليد بيسر وسهولة وانتشار لا نظير له على مستوى البحث والانتقاء والتشابه والتشاكل وغيرها من شؤون العودة إلى المراجع، لكنه لم يحفظ لها الخلود الذي كفله الكتاب منذ حضوره الأول، فلا يزال الكتاب مادة محسوسة يمكن امتلاكها والنأي بها عن غارات الزمن وتحوّلاته والمستجدّات فيه، فضلا عن العلاقة النفسية المباشرة معه المتمثلة في رائحة الورق وحميمية الكتاب كصديق تحمله وتتنقل به وتتسوّح بصفحاته في كل مكان وزمان. ولكي أكون أكثر واقعية دعونا نعود فقط حيث عقد ماضٍ من الزمن، ونتساءل عن تلك (المنتديات الإلكترونية) التي حملت واستوعبت الآلاف من الكتابات على تعدد توجهاتها وتخصصاتها والأعضاء المشاركين في محتواها، أين هي اليوم بكل ما كان فيها من محتوى وبكل ما حملته من اهتمام ومتابعة وتفاعل، لقد سقط كل ما فيها بسقوط زمنها.. وبقيت الكتب التي خرجت منها ماثلة للخلود بعبق رائحتها وملمس الورق فيها... إنه الكتاب الذي نحتفي به مهما بلغت بنا التقنية ومهما تجاوز الزمن أوراقه الصفراء منذ فجر التاريخ.