كان للشيخ محمد العبودي الريادة في تدوين الأمثال الشعبية في وسط السعودية بإصدار كتاب (الأمثال العامية في نجد) سنة 1379ه، وبعده أصدر الشيخ عبدالكريم الجهيمان كتاب (الأمثال العامية في قلب جزيرة العرب) سنة 1383ه، وفي هاتين المدونتين الضخمتين وما تلاهما آلاف الأمثال الشعبية التي جرت على ألسنة الناس في شتى أمور حياتهم، وكثير منها أمثال جميلة ربما لا يُتاح الاطلاع عليها وعلى القصص المرتبطة بها، بتمعن، إلا لقلة من الباحثين والدارسين، مع أنّ القارئ سيتنبّه كلما أعاد تصفُّحها لوجود أمثال معبّرة لم ينتبه لها أو لم يمنحها ما تستحقه من التأمل. ومن الأمثال التي لفتت نظري بعد العودة لقراءة أمثال العبودي المثل القائل: «ذيب رْمَاح منين يشرب»؟، وأول ما شدّ انتباهي في هذا المثل ارتباطه بمسقط رأسي محافظة «رماح» أو بأحد الأشياء الرائعة التي تشتهر بها وهي آبار الماء العذبة والمتدفقة التي طالما استقى منها القاطنون والعابرون للصحراء على مدى قرون من زمن، وطالما ورد ذكرها في قصائد الشعراء متنوعة الأغراض. فهذا المثل لم يحظ بتداول واسع مثلما حظي المثل الشهير الذي ارتبط بالزيدي أحد آبار رماح: «من أشبعته الدهناء أرواه الزيدي»، ومن حسن الحظ أن العبودي دوّنه وشرحه وروى قصته الطريفة. فمن الشرح يتبيّن ارتباط المثل بفئة من فئات المجتمع لها حضور بارز في المأثورات الشعبية عموماً وهي فئة المماليك، وهذا هو الأمر الآخر الذي لفت نظري. فقد ذكر العبودي أنّ أحدهم رأى «عبداً له ساهم الفكر كمن يفكر في أمر قد أهمَّه، فسأله: ماذا بك؟ فأجاب: إنني أفكر في ذئب رماح من أين يشرب». وأضاف الشيخ: «لأن رماح بعيد القعر يصعب إخراج الماء منه وهو واقع في أرض ليس فيها موارد أخرى للماء». ويُضرب المثل لمن ينشغل عن مشكلاته بالتفكير في مشكلة لا علاقة له بها. قراءة قصة هذا المثل ذكّرتني بمسألة مهمة توقّف عندها بعض مدوني تراثنا الشعبي المتعلق بالمماليك، وهي مسألة تمحور معظم حكاياتهم والمأثورات المتصلة بهم حول الغباء والبلاهة، فكما نلاحظ المملوك في المثل يفكّر بطريقة هي وعدم التفكير سواء، ويفترض وجود مشكلة ربما لا يصح تناولها إلا من منظور مُتخيّل وساخر كما فعل ذلك الشاعر تركي بن حميد حين تخيّل، في القصيدة الشهيرة المنسوبة إليه، بعيراً أسطورياً يشرب من آبار رماح العميقة بكل سهولة: واليا ورد يشرب ثمانين بيري غرّافهن تسعين ودليّهن ماح رجليه بالحرَّة وصدره يسيري ويشرب براسه من على جمّة رماح فلماذا لم يستطع المملوك صاحب قصة المثل تخيّل ذئب برقبة طويلة، تمكّنه من الشرب من آبار رماح، كما تخيّل ابن حميد؟ ولماذا تُبالغ المأثورات الشعبية في تصوير ضعف إدراك الخادم وبلادتهم وسقم فكرهم؟ هذا ما سأحاول عرضه فيه مقال لاحق بإذن الله. محمد بن ناصر آبار قديمة الأمثال العامية في قلب جزيرة العرب الأمثال العامية في نجد